تلقت دار الإفتاء سؤال يقول فيه صاحبه: كنت في أحد أيام رمضان أستعد لصلاة العصر، وعندما أردت أن أضع العطر منعني صديقي وقال لي إنه يبطل الصيام، فهل هذا صحيح؟.
وأجابت "الافتاء" إنه يجوز شرعًا للصائم أن يتطيب في نهار رمضان، ولا حرج عليه في ذلك، مع مراعاة ألَّا يصل شيء من الطيب إلى جوفه.
وتابعت الدار من شمائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبه الطيب والإكثار من التطيب؛ حيث روى النسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، وروى الإمام البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَطْيَبِ مَا يَجِدُ، حَتَّى أَجِدَ وَبِيصَ الطِّيبِ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ"، إلا إذا كان محرمًا؛ ف الطيب ممنوع أثناء الإحرام، ومع ذلك فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضع الطيب قبل الإحرام؛ روى الإمام مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ".
وعموم هذه الأدلة - وغيرها مما ورد في استحباب استعمال الطيب والتعطر بالروائح الزكية - يقضي بجواز ذلك في الصيام وغيره إلا ما استثناه الشرع الشريف كالإحرام وما يلحق به، ويؤيد ذلك أن علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم وتنوع مشاربهم لم يعدوا ذلك ضمن مفطرات الصوم؛ قال الإمام محمد بن أحمد ميَّارة المالكي في "الدر الثمين والمورد المعين" (ص: 464، ط. دار الحديث): [وأما المشموم الطيب الرائحة فنقل صاحب "المعيار" عن الإمام أبي القاسم العقباني أنه قال: لا أعلم من يقول فيه بالإفطار وإنما يكره في مذهب بعض أهل العلم] اهـ.
لكنهم اختلفوا فيما وراء ذلك من حيث الكراهة وعدمها؛ فمنهم من يرى جوازه بلا كراهة، ومنهم من يرى أنه يسن الابتعاد عنه؛ وذلك لأنه منافٍ لحكمة الصوم التي منها تعويد الصائم على التقشف والابتعاد عن التَّرفُّه والشهوات، ومنهم من يرى كراهية شم ما لا يُؤمن أن يجذبه النَّفَس إلى الحلق، ومنهم من فرَّق بين المعتكف وغيره، فكرهه لغير المعتكف؛ لأنه غير مبتعد عما يفسد اعتكافه.
فالحنفية يرون جواز التطيب للصائم بلا كراهة، قال العلامة حسن بن عمار بن علي الشرنبلالي المصري الحنفي في "مراقي الفلاح شرح متن نور الإيضاح" (ص: 245، ط. المكتبة العصرية): [وتفيد مسألة الاكتحال ودهن الشارب الآتية أن لا يكره للصائم شم رائحة المسك والورد ونحوه مما لا يكون جوهرًا متصلًا كالدخان فإنهم قالوا: لا يكره الاكتحال بحال وهو شامل للمطيب وغيره ولم يخصوه بنوع منه وكذا دهن الشارب] اهـ.
ويرى بعض الشافعية أنه يُسن ترك التطيب في الصيام؛ لما فيه من الترفه، قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب" (1/ 142، ط. دار الفكر): [وسن من حيث الصوم.. ترك شهوة لا تبطل الصوم؛ كشم الرياحين والنظر إليها؛ لما فيها من التَّرفُّه الذي لا يناسب حكمة الصوم] اهـ، وإذا سن ترك شم الرياحين؛ فمن باب أولى يسن ترك وضع العطور التي تُظهرها هذه الرياحين، إلا أن التطيب كان فيما مضى من أنواع التَّرفُّه كما ذهب إلى ذلك الشافعية، أما اليوم فليس من الترفه في شيء، بل أصبح من العادات العرفية، والمرء إذا لم يتطيب ربما انبعثت منه روائح كريهة تُنفِّر الناسَ منه.
ويرى بعض الحنابلة كراهية شم ما له جرم من العطور؛ لأنه لا يُؤمَن أن يجذبه النَّفَس إلى الحلق، قال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (2/ 330، ط. دار الكتب العلمية): [ويكره للصائم شم ما لا يأمن أن يجذبه نفَسه إلى حلقه كسحيق مسك وكافور ودهن ونحوها كبخور عود وعنبر] اهـ، وأكثر العطور اليوم ليست مما له جرم يمكن أن يجذبه النَّفَس إلى الحلق، وإن كانت العطور سائلة أو جامدة ولها جرم فيكفيه ألا يدنيها من أنفه أو حلقه حتى لا يدخل إلى جوفه شيء منها؛ خروجًا من الخلاف؛ فإنهم إنما كرهوه احترازًا لأنه إذا دخل شيء إلى الجوف أفطر، فإذا أمن من دخول شيء إلى جوفه جاز له أن يضعها حيثما يريد.
ويرى المالكية جواز التطيب للصائم المعتكف ويكرهونه لغير المعتكف؛ وعلَّتهم في ذلك أن المعتكف معه مانع يمنعه مما يفسد اعتكافه، وهو مكثه في المسجد وبُعدُه عن النساء بخلاف غير المعتكف؛ قال العلامة أبو البركات سيدي أحمد الدردير في "الشرح الكبير" (1/ 549، ط. دار إحياء الكتب العربية): [وجاز للمعتكف.. تطيبه بأنواع الطيب، وإن كره لصائم غير معتكف؛ لأن هذا معه مانع يمنعه مما يفسد اعتكافه، وهو المسجد وبُعدُه عن النساء] اهـ.