فوجئت الأوساط الشعبية والرسمية السودانية صباح يوم الخامس عشر من إبريل 2023 بإندلاع اشتباكات مسلحة عنيفة بين كلا من القوات المسلحة السودانية وما يسمى ب قوات الدعم السريع التابعة ( نظريا ) للقوات المسلحة السودانية وسط اتهامات متبادلة من الجانبين بمسئولية الطرف الآخر عن بدء الاشتباكات فى مشهد عبثى صادم إلا أن المتابع جيدا للشأن السودانى خاصة فى العقد الأخير يرى أنه صدام متوقع حدوثه بل هو أحد السيناريوهات المتوقع حدوثها بسبب حالة الإحتقان السياسى والأمنى فى السودان خاصة فى ظل سياسات الفوضى الخلاقة التى تضرب المنطقة العربية بكاملها منذ 2011 بفعل فاعل.. والتى للأسف لم يتجنب تداعياتها الأشقاء فى السودان بغرابة شديدة رغم تكرار هذا السيناريو فى تونس ومصر وليبيا وسوريا بالتريب..!! وهو ما يلقى بالمسئولية على مختلف القوى السياسية والأمنية والشعبية فى السودان خاصة طبقة المثقفين السودانيين وما يسمى بالعناصر الثورية المطالبة بالديمقراطية حتى ولو على جثة الوطن.. والتى فشلت جميعها فى تجنب وصول السودان إلى هذا الموقف المتأزم البالغ الحرج للجميع رغم علم الجميع أن السودان هو أول الدول العربية المرشحة للتقسيم والتفتيت والذى بدأت ارهاصاته بإنفصال جنوب السودان 2011، ويحاول غربة متمثلا فى ديار الفور (دارفور) أيضا الاستقلال وحتى يمكننا استيعاب ما يحدث داخل السودان حاليا علينا أن نتفهم طبيعة الخلاف بين طرفى النزاع وتحليل للأوضاع الحالية على الأرض بغرض محاولة استشراق المستقبل القريب للأحداث داخل السودان.
بداية فإن النشأة الغير سوية ل قوات الدعم السريع وقائدها حميدتى والتى تمثلت فى كونها فى الأساس مجرد ميلشيات مسلحة تشكلت من رحم أزمة إقليم دارفور 510 ألف كم مربع.. ذلك الإقليم الذى عانى من ويلات الحرب الأهلية بين ساكنيه الأصليين وأكبرهم قبائل الفور التى سمى الإقليم باسمها وتتمدد عبر الحدود السودانية التشادية وبين البدو الرحل من تجار الأبل ورعاه الأبقار من أصول عربية وأكبرهم قبيلة الزريقات التى تنتشر فى دارفور وكاردفان ( مسقط رأس محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتى) والذى امتهن فى البداية مهنة تجارة المواشى ثم شارك فيما بعد فى تأمين قوافل التجارة بين السودان وتشاد وليبيا ومصر.. الأمر الذى أكسبه خبرات مميزة فى المجال الأمنى والطبوغرافى عبر السير فى الدروب الصحراوية الوعرة فى مناطق بالغة الصعوبة بالإضافة إلى كونة مدعوما من أكبر القبائل فى ولاية دارفور الأمر الذى ساهم فى ظهوره على الساحة السودانية كأحد العناصر الاقتصادية والأمنية الواعدة.. بقى أن تعلم أن الفريق أول حميدتى لم يستكمل تعليمه فقد توقف عن الدراسة فى سن الخامسة عشر وامتهن التجارة ثم تأمين قوافلها.. وهو ما يوضح طبيعة قوات الجنجاويد (راكب الخيل المسلح ببندقية آلية) التى يقودها حميدتى والتى بلغ تعدادها نحو 40 ألف مقاتل معظمهم من العرب الرحل والتى استعان بهم نظام البشير فى قمع التمرد فى إقليم دارفور بعد أن استنذفت القوات المسلحة السودانية تماما فى هذا الصراع القبلى وكان البشير( المدعوم إخوانيا) هو من منحه رتبة لواء فى الجيش السودانى..!! ليقود المواجهات ضد المترمدين فى دارفور نيابة عن الجيش وهو ما استلزم تجميل ميلشيات الجنجاويد بتحولها إلى ما يسمى ب قوات الدعم السريع بعد أن أمدها بعناصر من عدة قبائل سودانية لإضافة الطابع القومى لها وليس القبلى مع دعمهم ببعض القيادات الصغرى والمتوسطة محدودة العدد من الجيش السودانى.. !! وجعل تبعيتها لجهاز الأمن والمخابرات السودانى حتى عام 2017 ثم أصبحت تابعة للقوات المسلحة السودانية.. الأمر الذى أضاف دور كبير لحميدتى على الصعيد الداخلى ولم يكتفى حميدتى بذلك إنما تجاوز دوره المحلى إلى دور آخر دولى وهو المساهمة مع قوات الرباعى العربى فى عمليات اليمن ضد الحوثيين ( 2015) حيث اوكلت له عدة مهام من اهمها حماية الحدود السعودية اليمنية وهو ما سهل له فتح قنوات اتصال مع كلا من القياده السعودية والاماراتية.. بالإضافة إلى اتصاله بالقيادة الروسية بحكم سيطرته على بعض مناطق إنتاج الذهب فى دارفور وزيارته إلى روسيا فى فبراير 2022 .
ومع قيام ما يسمى بالثورة السودانية فى ديسمبر 2018 احتجاجا على سوء الأوضاع الاقتصادية وحصار المحتجين للقصر الرئاسى وبداخله البشير ومع تحفظ الجيش على استخدام العنف المفرض ضد المتظاهرين استعان البشير بصديقه الجنرال حميدتى لانقاذه من المتظاهرين واخماد الثورة إلا أن حميدتى الذى أكسبه السير عبر دروب الصحراء الوعرة الوصول إلى هدفه من أقصر وأسرع طريق فاجأ الجميع ورفض الإنصياع لرغبات البشير وأيد المتظاهرين فى مطالبهم الأمر الذى شجع الجيش السودانى على خلع البشير وإعتقاله فى أبريل 2019 الأمر الذى أضفى قدر من الشعبية لحميدتى وقواته خاصة من جانب القوى الثورية والتى تريد هى الأخرى من يدعمها أمام تدخل المؤسسة العسكرية فى ترتيبات الفترة الانتقالية بعد الثورة ..وهو ما أسفر بالفعل عن توقيع ما يعرف بإتفاق جوبا (أكتوبر2020) والذى وقعه حميدتى بإعتباره قائد للجبهة الثورية .. والتى نصت أهم بنودها على إدارة فترة انتقالية لمدة 39 شهر تحت قيادة مجلس سيادى وليس المجلس العسكرى .. ودمج مقاتلى الجنجاويد ( البدو الرحل) فى الجيش السودانى بنفس الامتيازات .. !! ومنح الجبهة الثورية ثلاث مقاعد فى المجلس السيادى من بينها نائب رئيس المجلس (الفريق حميدتو) بينما رئيس المجلس القائد العام للقوات المسلحة الفريق اول برهامى .. بالاضافة الى خمس وزارات فى الحكومة و75 مقعد فى البرلمان الانتقالى.. وكلها بنود توضح مدى القوى التى تتمتع بها ميلشيات الدعم السريع بقيادة حميدتو التى خرجت ضد الجيش أبريل 2023 ولن تعود إلا بتحقيق أهدافها والاستيلاء الكامل على السلطة وعزل رئيس المجلس السيادى البرهامى وهو ما نراه أمر بالغ الصعوبة وأن ذكاء حميدتو الفطرى وخبرته الواسعة فى الدروب الصحراوية قد خانتاه فى هذا التصرف رغم اعترافنا بالتخطيط الدقيق والسرية المفرطة لعملية الانقضاض على السلطة والذى بدأها بإخراج القوات الجوية السودانية (عنصر التميز الرئيسى لدى الجيش السودانى ) من العمليات بإحتلال قواته للمطارات العسكرية والسيطرة على أبراج المراقبة لتحييد الطيران السودانى تماما فى اللحظات الأولى للاقتتال وهو ما يدحض فكرة أن الجيش السودانى هو من بدأ بالقتال ..خاصة وأنه لم يكتفى بذلك بل قصف ودمر خزانات ومستودعات وقود الطائرات فى العاصمه الخرطوم وام درمان وهو سبب أعمدة الدخان السوداء التى تصاعدت فى الأيام الثلاثة الأولى للاشتباكات.. بالإضافه إلى احتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون وحصار مبانى القيادة العامة للجيش السودانى والقصر الرئاسى (لاحتمالية تواجد البرهامى بداخلهم ) لاعتقاله فى أول لحظات الانقضاض على السلطة وهو ما فشل فيه إلى الآن .. إلا أن حميدتى قد فاته أن الجيش السودانى سيدمر كل قواعد وتمركزات قوات حميدتى ومخازنها اللوجيستيه (وهو ما يحدث حاليا ) وبالتالى فستظل هذه الميلشيات فى حالة قتال فى المدن دون إعادة تزود بالوقود أو امداد بالذخائر وباقى اللوجيستيات الضرورية ولا تسطيع فى نفس الوقت العودة إلى قواعدها وتمركزاتها.. وهو ما يجعلها غير قادرة على الاستمرار فى القتال لفترات طويلة نسبيا.. وهو ما يبرر لجوءها لأعمال السلب والنهب مؤخرا بهدف الحفاظ على قدراتها القتالية أطول فترة ممكنة فإطالة أمد النزاع يصب ولا شك فى صالح الجيش السودانى ميدانيا بينما ميلشيات حميدتى لن يكون أمامها طبقا لهذا السيناريو سوى خلع ملابسها وإلقاء سلاحها والذوبان داخل المجتمع السودانى أو الفرار فى شكل جماعى إلى دارفور ومنها إلى الحدود التشادية وإعادة التمركز فى مناطق شمال وغرب دارفور وإعادة الصراع القبلى هناك إلى نقطة الصفر.. وهو السيناريو الأرجح للتنفيذ بشرط تماسك الجيش السودانى وإصراره على القيام بدوره التاريخى فى حماية الدولة السودانية من الانقسام والتفتت.. أما السيناريو الثانى المتوقع حدوثه ولكن بنسبه أقل هو تدخل دولى حاسم يفرض على الجيش السودانى إيقاف أعمال القتال فورا تحت مسمى هدنة إنسانية والدخول فى مرحلة التفاوض بهدف إعطاء فرصة لمليشيات الدعم السريع لاستعاده الإمداد ولتجنب هزيمتها ودحرها والحفاظ على كيانها الرئيسى من التدمير حتى يمكن استخدامها لأغراض أخرى لصالح قوى إقليمية ودولية قد نتعرض لها فى مقال لاحق إن شاء الله .