اقترحت أن نضع عنوانا عريضا لمحاولات سينمائية كوميدية بدأت منذ عدة سنوات يمكن توصيفها بأنها أقرب ما تكون إلى "كوميديا الكوميكس"، ومن سماتها الواضحة التصوير الكاريكاتيرى المبالغ فيه للشخصيات، واستدعاء أجواء الغرابة والفانتازيا، والانطلاق من الواقع إلى تصرفات عجيبة طفولية أحيانا، وكلها ملامح موجودة فى القصص المصورة، التى استلهمت السينما العالمية بعض أبطالها، سواء كانوا أصحاب إمكانيات كوميدية، أو يمتلكون قوى خارقة، على طريقة أبطال مارفيل الخارقين..
يبدو لى أن السينما الأمريكية ما زالت صاحبة التأثير الأكبر على اتجاه هذا الجيل ممن يكتبون لدينا نوعية كوميديا الكوميكس، فهناك طموح واضح فى اكتشاف الفانتازيا بدلا من التناول الواقعى الساخر، واستغلال خاص لخدع الجرافيكس، ولإمكانيات السينما الكبيرة فى ترجمة الخيال. الواقع حاضر بالتأكيد، ولكن عبر معالجات خيالية غريبة، وتتراوح محاولات "كوميديا الكوميكس" هذه بين الإجادة، وبين التأرجح والتخبط والحيرة، ولكنها ظاهرة لافتة تستحق التأمل.
خذ مثلا فيلم "رهبة مصنع الكراسي"، الذى كتبه محمد علام وأخرجه رضا عبد الرازق فى أول فيلم طويل له، الحكاية عن فتوة فى إمبابة، أى أنها فى قلب عالم الواقع المعروف، ويمكن أن تقدم فى صورة ساخرة واقعية، مثلما كان يفعل محمد رضا فى أفلامه، ولكن المعالجة، ومنذ المشهد الأولى، تخبر المتفرج بأنها فانتازية وكاريكاتورية وغرائبية، فملابس الشخصيات ملونة وغير تقليدية، وهناك كتابة على الشاشة تسجل قواعد التعامل مع سيد رهبة (أحمد الفيشاوي)، فتوة إمبابة، الذى يواجه مجموعة من الشباب، يحملون أسلحة ورشاشات، وعندما يطلقون عليه النار، يتفادى طلقات الرصاص، كأنه يتفادى أحجارا مصوبة فى اتجاهه، والشباب الذين يطلقون النار يتحركون بشكل أقرب الى الرقص والاستعراض، وسيد رهبة يأخذ أوضاعا مضحكة فى إطلاق النار، والمعركة بأكملها تذكرنا بمعارك ألعاب الفيديو الطفولية.
هذا قانون الفيلم منذ البداية، فقد أخذ شخصية عادية، من منطقة واقعية، وانطلق بها إلى عالم خيالي، يحتمل مبالغات كاريكاتورية وساخرة وصادمة أحيانا، حيث يبدو سيد رهبة مثل ملوك المافيا، يسرق وينهب ويفرض أخته شيرين (نسرين إمام) كمغنية فى عوامة، يخاف منه الجميع، ويواجه خصمه الفتوة عزوز الحوت (محمد لطفي) فى معركة شرسة بالسلاح، ومعهما أفراد العصابتين، وبينما يبتر سيد يد غريمه، يقوم الحوت بمهاجمته بأغرب طريقة، حيث يلقى عليه حذاءه الضخم، فيصيب رأس سيد، وتكون هذه الإصابة، سببا فى تغيير رهبة من النقيض إلى النقيض، لأنها، وفقا لمنطق الفانتازيا الغرائبي، قتلت لدى فتوة إمبابة مراكز العنف والشر، فصار سيد رهبة أطيب أهل إمبابة، وأكثرهم دماثة وطفولية، من خلال ضربة حذاء واحدة!
هنا خيال طريف يذكرنا بفكرة فيلم "قلب أمه" بطولة هشام ماجد وشيكو، وهو أيضا من أفلام "كوميديا الكوميكس"، وفيه ينقلون قلب أم إلى الجسد الضخم لزعيم عصابة شرس، فيتحول من العنف إلى الرقة والنعومة.
سينجح فيلم "رهبة" فى تقديم بعض المشاهد المرحة، الناتجة عن تحول الفتوة الى شاب هادئ لطيف، يحلق شاربه، ويرتدى الملابس المزركشة، ويشرب السحلب والحلبسة، ويتعاطف مع من عاقبهم، ولا يستطيع أن يضرب أو يقتل، وتنشأ المفارقة أيضا من رغبة أسرة رهبة، المكونة من أخته شيرين، وأمه مشاعر (سما إبراهيم)، وخاله بركات (محمود البزاوي)، فى أن يعيدوا فتوتهم المتحول بضربة حذاء إلى سطوته السابقة، حتى لا ينتقم منهم أهل إمبابة، الذين عانوا من جبروت رهبة قبل موقعة ضرب الحذاء، فى حين ينتهز عزوز الحوت الفرصة للانتقام ممن بتر يده.
لكن هذه المسخرة، التى تصل إلى ذروتها فى محاولة الأسرة إعادة عقل سيد رهبة إلى شراسته بتصويب الأحذية إليه، من جديد تتأرجح بين الخيال الغريب، وبين تفاصيل الواقع، فأضعف خطوط الفيلم على الإطلاق، هو خط مراسلة الفضائيات (ثراء جبيل)، التى تريد أن تلتقط فيلما عن فتونة سيد، فتكتشف أنه تحول إلى طفل ساذج إذ ليس مفهوما لماذا تصر المحطة ومديرها بيبرس على شريط لسيد بالذات؟ وما علاقة ذلك بربح ستحصل عليه القناة بالملايين من شخصية غامضة؟
مراسلة الفضائيات لها أيضا أب مريض، سينقذه سيد رهبة من الموت، بتهديد العاملين فى مستشفى استثماري، وبصورة تناقض طبيعته المسالمة الجديدة، وهناك مشهد مواجهة بين رهبة وبيبرس حول إذاعة شريط جديد تم تصويره، وكلها أحداث مضطربة أفسدت خيال الحكاية. يمكن مقارنة هذه المشاهد مثلا بخيال وطرافة لقاء رهبة مع زعماء عصابات المناطق المختلفة، على طريقة زعماء المافيا، لكى تدرك حيرة وتأرجح الكاتب بين لعبة الخيال، وهاجس الواقع، إنه يحاول كذلك أن ينتقد عبث الفضائيات، وأن يناقش أهمية الفتونة الحقيقية فى حماية الغلابة، والجوانب الطيبة عند الفقراء، الذين تجبرهم ظروفهم على ممارسة العنف، وكلها أفكار جيدة، ولكن المشكلة فى أنها لم تجد تعبيرا دراميا خياليا مناسبا، يتسق مع المعالجة الهزلية.
فى كل الأحوال، ظل للتجربة بعض البريق، وأطلق المشاهد بعض الضحكات، وخصوصا مع محاولة رسم الشخصيات بطريقة كاركاتورية، وبابتكار خطوط ظريفة، مثل علاقة الحب بين مشاعر، والدة رهبة، وبين رجل يريد أن يتزوجها، ومثل رسائل المغازلة عبر الموبايل التى يرسلها إلى شيرين شخص غامض سنعرفه فى النهاية، وأخيرا مشهد تعاطف الحوت مع حالة رهبة بعد التحول، ورفضه أن يعاقب رجلا طيبا، انتظارا لاسترداد رهبة لشراسته فى وقت قريب.
محمد علام، الذى كتب من قبل أفلاما مثل "سعيد كلاكيت"، لديه موهبة فى كتابة المشاهد الكوميدية، والوصول بها إلى حدود المسخرة، ولكنه يحتاج إلى ضبط المعالجات، وحذف ما لا تحتاجه، ورضا عبد الرازق كمخرج لديه أيضا حس كوميديا جيد، ويمكنه أيضا أن يقدم أفلام الحركة بإجادة، أما فريق الممثلين فقد كانوا عموما فى أدوارهم، رغم بعض المبالغات بالذات من الممثل الذى لعب دور بيبرس، وكانت أفضل مشاهد أحمد الفيشاوي، بعد عودته من غيبوبة الحذاء، حيث ظهر كطفل مهذب، بينما كان أقل إقناعا فى مشاهد شراسة سيد رهبة، أتمنى أيضا أن يضبط الفيشاوى مخارج ألفاظه، وينظم سرعة نطق الكلمات، حتى لا تخرج العبارات مختلطة وغير مفهومة أحيانا!
لا أعرف إلى أين ستذهب بنا نوعية "كوميديا الكوميكس" هذه؟، ولكنى استفضت فى الحديث عن "رهبة مصنع الكراسي"، لأن فيه خيال وطموح الأفكار المختلفة والغرائبية فى تلك النوعية، وفيه أيضا اضطراب وحيرة وتأرجح السرد والمعالجة.
إنه دليل جديد على أننا فى مرحلة المحاولة والاكتشاف والتجريب، قبل أن تنضج تلك المحاولات، وقبل أن نصنع أفلاما من تلك النوعية، تصمد لاختبار الزمن، فتبقى وتعيش فى الذاكرة.