يمكن أن نضع فيلم «البعبع»، من تأليف إيهاب بليبل، وإخراج حسين المنباوي، وسط طوفان من أفلام «الأبطال الضد»، وحكايات السرقة والاحتيال والاحتيال المضاد، والندالة والندالة الموازية، ومقالب العصابات، التي انفجرت في السينما المصرية، منذ عرض الجزء الأول من فيلم «عصابة أوشن»، إلى درجة أننا نحتاج الآن الى استقصاء تأثير هذا الفيلم على تيار بأكمله، وجد في هذه التوليفة فكرة اللعب الدرامي، والحبكة المتقنة، واللمسات الكوميدية، وحرية تقديم شخصيات غير منتمية إلا لنفسها، ولا تهتم بالقانون، أو بالعرف، كما أنها نماذج متمردة ومأزومة، وربما كانت ذروة هذا التيار فيلم "ولاد رزق" بجزأيه، وقد حققا نجاحا مكتسحا، وفي الطريق جزء ثالث، استغلالا لهذا النجاح.
فيلم «البعبع» يعرف عناصر نوعه بالضبط، ويختار بوضوح أن يكون أكشن كوميدي، ويستغل فكرة الأبطال الضد حتى النخاع، كما يستغل أيضا هذا المزيج من الكوميديا والأكشن.
لا أقصد فقط تقديم مشاهد وحوارات مضحكة، وتتابعات كثيرة جدا من مشاهد المطاردات، والالتحام الجسدى، المنفذة بكثير من الإتقان، أداء ومونتاجا وموسيقى، ولكن الكوميديا فى الفيلم بدأت من المفارقة الأساسية، بظهور طفلين لمجرم سرق عصابة، وحصل منها على المال، وعلى قطعة آثار، و الكوميديا أيضا بالرسم الكاريكاتورى لكل الشخصيات، أى أننا أمام فيلم يعرف نوعه جيدا، ولا يريد أن يتجاوز ذلك، وإنما يحقق توقعات الجمهور حرفيا، وبدرجة إتقان معقولة.
ولكن ما يثيره «البعبع» هو حدود هذا النوع، ومدى الابتكار فيه، ومدى تشبع الجمهور بنمط الأندال والندالة، وخصوصا مع كثرة هذه النوعية من الأفلام، لا أقصد هنا تأثر الجمهور أخلاقيا بهذه الأنماط، فالفن يقدم وجهة نظر، وشخصيات واقعية، وألعاب درامية، وكثير من الخيال، والشخصيات التى رأيناها فى «البعبع» تمثل ألوانا من البشر، وهم فى كل الأحوال فى حالة مطاردة مستمرة، وعدم أمان دائم، وفوضى وعدم استقرار، والندالة والاحتيالات بينهم بلا نهاية، أى أنهم لا يستفيدون كثيرا من لا أخلاقيتهم تلك.
ولكن ما أقصده أن التكرار، واستمرار التوقعات، وتكدس الأفلام من نفس النوعية، وبنفس الكليشيهات، يمكن أن يقلل من قوة النوع، ويقضى تماما على بريق النجاح، ويحول الأمر إلى موضة فقدت زمنها، مع التسليم فى حالة "البعبع"، بموهبة إيهاب بليبل بالذات فى مجال الحوار الكوميدي، وبقدرات حسين المنباوي، الذى أعتبره من أفضل مخرجينا الشباب، فى فهم النوع الذى يقدمه، وهو يتألق على وجه الخصوص فى مجال أفلام الحركة الكوميدية.
ماذا لدينا فى «البعبع»؟
هناك سلطان البعبع (أمير كرارة)، الخارج توا من السجن، دون أن يتعظ بالعقوبة، فيقوم بالنصب على عصابة يقودها باسم سمرة، ويأخذ منهم قطعة الآثار، وأموال بيع القطعة، ويحاول أن يهرب من البلد، ولكن ظهور طفل وطفلة له من زوجته، التى انفصل عنها، يقلب حياته رأسا على عقب، إذ إن عليه الآن أن يهرب، ويرسل الطفلين إلى خالتهما، بينما سيؤدي الهروب فى المطار، إلى لقاء بالصدفة، مع طبيبة مسافرة إلى الخارج فى بعثة (ياسمين صبرى)، فتتورط معه، ومع الطفلين، ويستعين سلطان كذلك بصديقه المحتال، ومزور الوثائق الأحمق (محمد عبد الرحمن)، لكى يساعده فى رحلة الهروب، فيما تتواصل مطاردة باسم سمرة وعصابته لسلطان وفريقه على مدار الفيلم.
التوليفة نموذجية، والصراع بسبب الندالة المتبادلة، أكثر من أي شيء آخر، وكل الشخصيات كاريكاتورية، حتى شخصية مساعدة لعبتها أنعام سالوسة كانت أيضا مضحكة، أما باسم سمرة، وهو زعيم عصابة خائب، فقد أضحكنا كثيرا بأدائه المتفرد، وزاد الطفل جان رامز والطفلة تيا حاتم من حيوية الأداء بلماضة وخفة دم، وكان الصراع مستمرا مع أول لقطة إلى آخر لقطة، مع جرعة كبيرة من مشاهد الحركة والمطاردات، وفى أماكن تصوير متنوعة، من المطار إلى منطقة شعبية فى إمبابة إلى مدينة للملاهي، ومشاهد فلاش باك طريفة جدا للعلاقة بين سلطان، وصديقه سعادة (محمد أنور)، الذى تتكرر معه ندالة سلطان، ولا يتعلم سعادة أبدا من تلك الدروس.
كل شيء كما يقول كتالوج النوع، والسرد بأكمله يأخذ شكل اللعبة، وربما كانت تلك مشكلة الفيلم، وهى الإسراف فى اللعب على حساب الخط الإنسانى بين سلطان وولديه، ولم يعد الجانب الإنسانى بقوة إلا فى الثلث الأخير من الفيلم، فبدأ سلطان يهتم برعاية الطفلين، وعلاقتهما بزملائهما، ولكن كان غريبا أن نعرف أن الولد مصاب بمرض القلب، مع أننا رأيناه يجري، ويتعرض لمواقف انفعالية خطيرة فى الجزء الأول من الفيلم.
فى كل الأحوال لم يتم التضفير الجيد للخط الإنسانى فى حياة سلطان، لأن المطاردات، والمشاهد الكوميدية، استأثرت تماما بالحكاية، وكان ذلك مسليا وجذابا على وجه العموم.
كان أداء أمير كرارة جيدا، سواء فى مشاهد الحركة، أو فى المشاهد الكوميدية، بينما بدا أقل بكثير فى المشاهد الإنسانية القليلة، لأنه ظل محافظا على طبقة الصوت كما هي، وبينما تألق باسم سمرة ومحمد عبد الرحمن ومحمد أنور فى أدوارهم الكوميدية، لم تكن ياسمين صبرى مقنعة فى شخصية الطبيبة الثرثارة، ولم تستطع مجاراة أداء أمير وعبد الرحمن، ولا مجاراة تلقائية وحيوية أداء الطفل جان، والطفلة تيا.
ومع ذلك، ظل الفيلم متماسكا من البداية حتى النهاية، مع إتقان مشاهد الحركة، ولمسة خفة كوميدية مطلوبة، وألعاب الشخصيات مع بعضها، التى يمكن اعتبارها بالأساس ألعابا مع المتفرج، ولكن ظل السؤال مطروحا فى ذهنى حول مدى بقاء تلك الحكايات فى الذاكرة، ومدى قدرة هذا النوع على التطور والابتكار، ومدى نجاح البطل الضد فى أن يستمر جذابا حتى النهاية، بمعالجات مبتكرة؟
لقد تشبع الجمهور بالندالة والسرقة والاحتيال وحركات العيال ومشاهد العنف، وأسوأ ما يقتل الفن أن يصبح كل شيء مثل كليشيه متكرر، وأن تختفى الدهشة تحت أقنعة العادى والمتكرر والمألوف.
هذا هو البعبع والكابوس الحقيقي.