كيف أصابت لعنة الآلهة "أوبنهايمر " في مقتل؟

كيف أصابت لعنة الآلهة "أوبنهايمر " في مقتل؟صورة ارشيفية

ثقافة وفنون5-8-2023 | 22:45

"الآن أصبحت أنا الموت..مدمر العوالم"

تلك هي العبارة التي قالها "أوبنهايمر"مستشهدا بكتاب "بهاجافادجيتا" المقدس عند الهندوس، وهو يرى القنبلة النووية التي أشرف على صنعها و هي حقيقة ملموسة أمامه بأشعتها النارية التي تملأ المكان بسطوتها المرعبة معلنة عن ميلاد عصر جديد ..عصر القوة ولا شيء غيرها..

بروميثيوس الأمريكي!

يستند فيلم "أوبنهايمر" على كتاب " بروميثيوس الأمريكي" الذي ألفه الكاتبان "كاف بيرد " و "مارتن شيروين" و قد فاز الكتاب بجائزة البوليتزر عن فئة السيرة الذاتية لعام 2006 .

و أسطورة "بروميثيوس" هي أسطورة يونانية قديمة تحكي عن " بروميثيوس " الذي كان مسئولا عن خلق الإنسان بتكليف من الإله "زيوس" لذلك قام بصناعة أشكال بشرية من التراب و الماء و أعطاها الحياة و جعل هذا الإنسان يرفع رأسه لينظر إلى السماء ، و بمرور الوقت ازداد تعلقه بالإنسان و فكر كيف يقدم له الخير و السعادة وهذا الأمر لم يعجب "زيوس" كبير آلهة "الأوليمب" لذا شعر بالغضب بسبب ذلك . ولما جاء الشتاء ..أطلق زيوس أول برد شتاء ورأى "بروميثيوس" الناس يرتجفون من البرد و يظهرون علامات الأسى و الحزن و تنبه حينها إلى أن للحيوانات جلودا سميكة كثيفة الشعر كما أن بإمكانها أن تلجأ إلى الكهوف لكن الإنسان ضعيف البنية لم يتمكن من حماية نفسه.

ومن هنا تأثر بروميثيوس بآلامهم و قرر أن يسرق النار ليعطيها لبني البشر ؛ ليخلصهم من انياب البرد القارس ، وفي تلك اللحظة قام بروميثيوس بإضرام شعلة دون أن يشعر البركان و هرب بها بين العتمة ووسط الصخور.

عندما علم "زيوس" بما فعله بروميثيوس أمر بعقابه بان ربط السلاسل في يدي بروميثيوس و بقى مقيدا بها ووجهه مرفوع نحو السماء و فوق الصخرة بدأ طائر النسر يحوم ليلتهم أحشاءه يوما بعد يوم عقابا على ما فعل.

فكان اختيار المخرج كريستوفر نولان" موفقا في بداية الفيلم عندما اتخذ من قصته طابعا أسطوريا ، ف أوبنهايمر هو " بروميثيوس القرن العشرين" الذي سرق النار ليعطي للبشرية أقوى وأكثرالأسلحة فتكا في تاريخها الممتد كله.

"نولان" في ثوبه الجديد

فاجأ المخرج كريستوفر نولان جمهوره بفيلمه الجديد "أوبنهايمر" فالفيلم لا يحكي السيرة الذاتية لأبي القنبلة النووية ، و لكنه اقتطع من حياته أهم مرحلة مر بها و مرت بها البشرية قاطبة ، فلقد اعتمد الفيلم في سرده على أسلوب " التسلسل الزمني المتداخل" من خلال مشاهد تمر كأطياف سريعة في سياق الأحداث غير ملتزمة بالتطور الزمني للحكي فلم يعتمد على " السرد الخطي " المعتاد في سرد الأفلام.

يحكي الفيلم عن متاهات السياسة و شعابها مترامية الأطراف محاولة أن تضم إلى حظيرتها " العلم" و ماذا تصنع بالعلماء ؟...و كيف يستعملهم الساسة ك"مناديل كلينكس" ثم يقذفونها في أقرب سلة قمامة! و كيف أصابت لعنة الآلهة "أوبنهايمر" ، فيبدأ الفيلم بمشهد لمحاكمة"أوبنهايمر" في جلسة استماع عام 1954 أثناء فترة المكارثية المرعبة في "الولايات المتحدة" عنمدا كان كل مواطن شيوعيا إلى أن يثبت العكس! ،وهذا ما طال "أوبنهايمر" و أدى به الأمر إلى إلغاء تصريحه الأمني و تجريده من نفوذه السياسي.

فالمسار الرئيسي للأحداث هو فترة إدارة أوبنهايمر لمختبر "لوس آلاموس" التابع لمشروع "منهاتن" في "نيومكسيكو" مع مشاهد "فلاش باك خاطفة " من حياته في شبابه و مراهقتهإلى أن تم تكليفه بتطوير أول الأسلحة النووية و كيف لعبت قيادته و خبرته العلمية دورا أساسيا في نجاح المشروع.

النازية في مواجهة الإنسانية!

بدأت فكرة صنع "القنبلة النووية" برسالة أرسلها ووقع عليها "ألبرت أينشتاين" إلى الرئيس الأمريكي"فرانكلين روزفلت" في أغسطس 1939 و قد نبّه البيت الأبيض إلى ان ألمانيا عازمة على صنع القنبلة و قد تطورها نتيجة للتقدم العلمي الذي أحرزته في مجال الانشطار النووي لليورانيوم، و بالفعل تبدأ "الولايات المتحدة" في مشروع "منهاتن" عام 1942 و ترأسه "أوبنهايمر" و كان حينها واحدا من أبرز وأمهر العلماء في ذلك المجال.

و بالفعل يبدأ العمل بدأب في مختبر "لوس آلاموس" على قدم وساق و قد سابق العلماء الزمن لملاحقة النازيين و كان اختيار الممثل "كيليان مورفي" في دور "أوبنهايمر" موفقا للغاية فلم يكن سوى عينين تشعان قلقا و أملا و ترقبا و ذكاء، مشاعر مختلطة سوف تنتاب المشاهد ؛ لأن " أوبنهايمر " شخصية بالغة التعقيد ذكي...مثابر ..عنيد ، يتعلم اللغة الهولندية في ستة أسابيع فقط ليلقي محاضرة في هولندا و يقرأ و يتعمق في الديانة الهندوسية و يقرأ عنها باللغة السنسكريتية !...علاقة معقدة مع زوجته مدمنة الكحول..و مع عشيقته التي لا تجد سبيلا أمامها سوى الانتحار ..إيقاع لاهث و سريع يضبطه "نولان" بمهارة فائقة ، و كان مشهد تجربة القنبلة النووية هو أكثر المشاهد تعبا للأعصاب ..ضربات قلب سريعة لأبطال العمل ..أنفاس تلهث من هول ما هم مقدمون عليه..يبدأ العد التنازلي 5..4..3..2..1..ثم

يبدأ أكثر الأسلحة فتكا في تاريخ البشرية ليعلن عن صرخة ميلاده أمام الجميع صانعا مظلة نووية مشعة، ولا يعلم "أوبنهايمر" أيسعد أم يحزن؟!!، يفرح مع جنوده و زملاءه في المختبر أم يبتئس تشاؤما من هول ما رأى؟!!، فلم يقل إلا عبارته الشهيرة "الآن أصبحت أنا الموت ..مدمر العوالم".

أوبنهايمر ...بطل أم مجرم؟

انتهت الحرب العالمية الثانية ووضعت أوزارها بهزيمة النازيين و دول المحور هزيمة منكرة فلم يعد هناك داعِ لاستحدام السلاح الفتاك و لكن إغراء استخدامه و تجربته كان فوق كل قدرة على التصور و الاحتمال ، فتقرر "الولايات المتحدة" إلقاء القنبلتين النوويتين على مدينتي" هيروشيما و ناجازاكي" اليابانيتين بالرغم من ان اليابان كانت استسلمت و من هنا تبدا مأساة"أوبنهايمر" . إحساس مؤلم بتأنيب الضمير مع قدرة فائقة على التبرير، يرى في أحلام يقظته أشلاء لجثث اليابانيين في كل مكان حوله..يسمع صراخ النساء و الأطفال ..زئير خوفهم و رعبهم..أحلامهم التي دهستها القنبلة دهسا ..تختلط مع أحلامه ليلا فلا يستطيع أن ينام بدءا من هذا اليوم.

لم يستمع "أوبنهايمر" لنصيحة أستاذه "أينشتاين" الذي حذره مما هو مقدم عليه عندما قدم له "أوبنهايمر" نظرية زميله "تيلر" لكيفية انشطار النواة حتى تولد طاقة نووية مشعة ...فرد عليه "أينشتاين" قائلا له في حسرة: "عليكم أن تتحملوا تبعات ما فعلتموه ..لقد دمرتم العالم".، و هذا ما قاله "أوبنهايمر" للرئيس "ترومان" : "أشعر أن يداي ملطختان بالدماء "...فما كان من ترومان إلا أن أعطاه منديله في سخرية و استهزاء!

أوبنهايمر و لعنة الآلهة!

تحت وطأة الشعور بالذنب و الألم يبدأ "أوبنهايمر" في مناهضة استخدام الأسلحة النووية و لا سيما "القنبلة الهيدروجينية" التي اقترحها "نظريا" زميله الفيزيائي "تيلر" و هنا تصيب لعنة الآلهة "أوبنهايمر" فتبدأ الشكوك تحوم حول نشاطه الشيوعي السابق و نشاط زوجته و أخيه وزوجته في ثلاثينيات القرن الماضي عندما كان عضوا في العديد من منظمات الجبهة الشيوعية والغريب أن صلاته هذه كانت معروفة من قبل جيش مكافحة التجسس في الوقت الذي أصبح فيه رئيسا لمختبر "لوس آلاموس" عام 1942 و للجنة الاستشارية العامة لذوي النفوذ التابعة لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية عام 1947، و في أثناء جلسات المحاكمة أثبت "كيليان مورفي " أنه ممثل من العيار الثقيل فلقد كانت عيناه نافذتين يطل منهما المشاهد على مشاعره الداخلية التي امتزجت بالغضب و الندم و التردد و القوة في نفس الوقت ..معركة كان يعلم "أوبنهايمر" أنه سيدفع ثمنها و بالفعل دفع ثمنها غاليا فلقد أسفرت المحاكمة على إلغاء تصريحه الأمني "كيو" و كان هذا بمثابة إسدال الستار على حياة "أوبنهايمر" ووقع " بروميثيوس القرن العشرين" هذه المرة تحت قبضة "آلهة مانهاتن" و ليست "آلهة الأوليمب"!

ماوراء الفيلم...

يمزج الفيلم بين السياسة و الفن و الفلسفة ؛ليطرح أسئلة فلسفيةعن الإنسان و صراعه مع قدره، و هل يختار مصيره أم يختاره مصيره؟!، فيكشف لنا عن نزعات الشر الدفينة بداخل الإنسان فلا يعلم المشاهد هل يحب "أوبنهايمر" أم يلعنه؟!..هل يبجله أم يحتقره؟!...هل يجلده أم يلتمس له العذر ؟!..فهذه الأسئلة لا تزال مطروحة حتى الآن؛ لأن "أوبنهايمر" كان يعلم أن القنبلة سوف تُقذف على مدنيين أبرياء و لكن إغراء الشهرة و النفوذ كان سيد الموقف و لا تزال الإجابة تائهة حتى وقتنا هذا.

كما كانت الموسيقى هي البطل الرئيسي فلقد تم صياغتها على شكل تموجات على شكل صعود و هبوط على حسب الحدث و استخدم فيها عنصر المفاجأة ..كما كان الديكور رائعا يشعر فيه المشاهد أنه جزء من فريق عمل "لوس آلاموس" كما كان انفجار "القنبلة النووية " واقعيا لدرجة يفقد معها المشاهد إحساسه بالزمن!

كما كان الممثلون المساعدون في غاية الإتقان و على رأسهم كل من" فلورنس بوج، إميلي بلانت ، مات ديمون، روبرت داوني جونيور، جوش هارتنيت ، كيسي أفليك ، رامي مالك، كينيث براناج".

فيلم "أوبنهايمر" ..أوركيسترا فنية بقيادة "كريستوفر نولان".

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء (2)

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2