لا أدري كم عدد المرات التي كررت فيها هذا الكلام الذي سأقوله عن هذا الفيلم، فقد تعبت من الحديث عن الأفكار الذهبية، التي تهدرها المعالجات والسيناريوهات المضطربة، وعن أهمية تطوير الفكرة، والشغل عليها، وعن مشكلة الكتابة عموما في السينما المصرية، سواء في القصة أو في السيناريو أو في الحوار.
طالما أن الأفلام تصنع عندنا بهذه الصورة التي شاهدتها فى فيلم "مطرح مطروح"، الذي كتبه أربعة مرة واحدة هم: محمد عز ولبيب عزت وأحمد محارب وخليفة سمير، وأخرجه وائل إحسان، سأجدني مضطرا لتكرار ما ذكرته سابقا، بل إنني شعرت بغيظ حقيقي، وأنا أشاهد فكرة الفيلم الذهبية، التي كانت كفيلة بعمل فيلم عالمي، وهي تهدر بسبب المعالجة والتفاصيل والسطحية، وعدم دراسة الفترة الزمنية، وعدم القدرة على تطوير الفكرة وتعميقها، وغضبت أكثر لأن هذا الفيلم يمثل عودة ممتازة للمخرج وائل إحسان، بل هو فى رأيي أفضل أفلامه كمخرج، من حيث التكنيك، وبناء المشاهد سمعيا وبصريا ومونتاجيا، ويتضمن الفيلم أيضا أداء بارعا من محمود حميدة، الذي أضحكنا بشكل أفضل من الكوميديانات الشباب، كما أن دور شيماء سيف فى الفيلم من أفضل أدوارها عموما، فهي لا تضحك فقط، ولكنها قدمت مشهدا مؤثرا جيدا بمنتهي الحساسية والإتقان.
ولكن الفيلم ليس مجرد تكنيك وأداء ممثلين، ولكنه يبدأ من السيناريو الجيد والمتماسك، ويمكن وصف الاضطراب الذي شاهدته فى السرد والمعالجة، بأنه أقرب إلى حركة "الزجزاج"، والتي تتكرر ضمن أفيهات الفيلم، بمعني السير شمالا ويمينا، وبشكل متعرج، وهي وصفة بطل الفيلم لأسرته، للهروب من الإنجليز والألمان.
هكذا ساروا لإضحاكنا، مشيا وزحفا، على مدار أحداث الفيلم، ولكن الغريب أن السيناريو نفسه كان أيضا يسير بشكل متعرج، يشرّق ويغرّب، ويعلو فيقدم مشاهد جيدة جدا، ثم يهبط فلا تعرف بالضبط هل دخل متاهة؟ أم أن كتاب السيناريو لا يعرفون ماذا يفعلون بفكرتهم الذهبية؟ ثم يظهر خط كامل لا تعرف كيف أقحم على الحكاية؟، وتتساءل منزعجا : ألا يوجد أحد يقرأ هذه الأفلام قبل تصويرها؟
لنتحدث بالتفصيل: الفكرة الذهبية هي وضع أسرة مصرية بالصدفة فى مفارقة مذهلة، لقد دفعهم حظهم العاثر أن يحققوا أمنيتهم بالتصييف، والذهاب إلى شاليه موروث فى مرسى مطروح، وكانت الرحلة فى ذروة الحرب العالمية الثانية فى العام 1942، حيث الصراع بين الإنجليز والألمان على الحدود الغربية.
بالإضافة إلى التناقض بين انفجارات الحرب، وحياة الأسرة المسالمة، فإن الفكرة تضع المواطن البسيط العادي، مصريا كان أم من أيّ جنسية، فى مواجهة الدمار والحرب، وبالتالي يمكن إدانة الحروب بطريقة مختلفة، وهذا ما فعله الفيلم فعلا فى نهايته، ولكن بعد أن تاه طويلا، وبعد مشكلات درامية كثيرة، رغم تميز بعض المشاهد.
يقدم السيناريو أسرة بطلنا بطريقة جيدة: الزوج موظف هيئة المساحة بديع السلاموني (محمود حميدة)، وزوجته مدرسة الموسيقى حسنية (شيماء سيف)، ونوال ابنته من زوجة سابقة (ليلى زاهر)، وفريد شقيقه من ابيه (كريم عفيفي)، والجميع يحلمون بالتصييف، الذي يؤجل عاما بعد عام، بسبب زملاء بديع، حيث يستأثرون بالإجازات، ثم يمنحون بديع إجازة، للتخلص منه، لأن قوات هتلر على حدود الغربية، وهو موقف لا مبرر له، فيكفى أن يحصل على إجازة والسلام.
نبتلع ذلك فى سبيل وصول الأسرة إلى مطروح، بينما ينزح منها الجميع، دون أن يلفت ذلك نظر عائلة بديع، ونتغاضى عن أن أغنية "باحب اتنين سوا"، ظهرت فى العام 1950، وليس فى العام 1942، زمن أحداث الفيلم، ونوافق على مضض على أن الأسرة ستصل إلى مناطق الحرب العسكرية بمنتهى السهولة، بل وستفتح الشاليه، وستجد فيه مؤونة للإقامة، المهم أن ندخل فى الصراع الأساسي، الذي سيتركز بين الألمان و الإنجليز من ناحية، والأسرة التي تريد التصييف، ورؤية البحر من ناحية أخرى.
لا بأس من الجزء الأول ومواقفه ومفارقاته بصراع الأسرة مع الجيشين، اللذين يتم رصهما بطريقة بدائية، فى مواجهة بعضهما البعض، وكأنهما فوق رقعة للشطرنج، وفى كل مرة يتعرض أفراد العائلة الساذجة للضرب، وفجأة تظهر شخصية عجيبة هي مصور شاب مصري يلعب دوره طارق الإبياري، يقوم بتصوير لحظات القبض على العائلة وسط الحرب (!!!!)، ثم يضرب الجنود الإنجليز (!!!) ويرسل الصور لتطبع وتنشر (!!!).
يقع السيناريو فى مفارقة أعجب، فالمنطقي أن تكون الأولوية لفكرة الهروب، أو تأمين عودة أفراد الأسرة من حيث أتوا، لأن خطر الموت أولى من التصييف، ولكن السيناريو يصر على أن العائلة تصر على رؤية البحر، وكأن شيئا لم يكن، وهو أمر لم يبذل السيناريو جهدا فى الإقناع به، فالمنطقي أن يطلبوا ذلك أولا من الإنجليز والألمان، ولكننا نرى الأسرة فى محاولات مستمرة بأنفسهم من أجل التصييف، وبذلك تنتقل العائلة من خانة البساطة والسذاجة وحب الحياة، الى خانة البلاهة والتأخر الذهني، وهو أمر غير مقصود بالطبع.
لكن هذه المشكلات كوم، وظهور بطل أفلام الحركة سكوت أتكينز، الذي اشتهر بشخصية بويكا، كوم أخر، فقد حشروا له خطا عجيبا، كشاب بريطاني من أم مصرية، عاد ليزور أمه، فقتلها الإنجليز، فقرر أن ينتقم لها بقتل جنود الجيش البريطاني، فى معارك لا تقل عبطا عن معارك مصور الفوتوغرافيا المصري، والشخصيتان يمكن حذفهما بسهولة، لأنهما بعيدان عن الصراع المحوري، بين العائلة المصرية من جهة، والألمان و الإنجليز من جهة أخرى.
يتواصل إصرار العائلة المصرية على التمتع بالصيف، وسط هذه الفوضى، حيث يكتشف بديع أن زوجته حامل، وتتوحم على شيكولاتة، فيذهب إلى كشك الحلوى (وسط الحرب أيضا!)، ورغم الرصاص والقنابل، لا يصاب بخدش واحد، ويصل السخف إلى ذروته، بظهور هتلر وتشرشل شخصيا وهما يتفاوضان على أرض مصر، ليستمعا إلى إدانة بديع للحرب، ويسمحان له بهدنة، لكي يتمتع مع عائلته الحمقاء بشاطيء البحر، وسط الجرحى والمصابين، وربما بعض الجثث والضحايا!!
لعلكم لاحظتم ما تؤدي إليه المعالجة المضطربة، وضعف حرفة الكتابة، وعدم دراسة ظروف الحرب، من كوارث تغير اتجاه الأحداث، ومعانيها، رغم وضوح الفكرة وجمالها، ولكن الأفكار لا تقال مباشرة، وإنما عبر دراما متقنة، محددة الصراع، مع حذف كل ما لا يلزم، وليس من خلال هذه الفوضى، أو عبر تلك الخطوط الإضافية الغريبة.
ضاع جهد كبير للمخرج، يمكن أن ترى تجلياته فى مشاهد متقنة، بتوظيف جيد لمونتاج أحمد حمدي، وموسيقى عادل حقي، وبعناصر مميزة مثل صورة جلال الزكي، وملابس ياسمين الدجاني، وديكور أمير عبد العاطي، وكلها عناصر ساهمت فى استحضار طابع حقبتي الثلاثينيات والأربعينيات.
خسارة حقا أن تكون الكتابة أقل من الفكرة، ما المشكلة إذن لو راجع السيناريو أحد أسطوات الكتابة؟
ولعلي أستدرك فأتساءل: وهل لدينا اليوم حقا أسطوات لمراجعة وتصليح السيناريو مثلما كان لدينا فى سالف الأيام؟!
أخشى أن يكون الجواب بالنفي.