مصر العظيمة دائمًا

مصر العظيمة دائمًاياسر الشاذلي

الرأى7-8-2023 | 09:01

على مدى تاريخ مصر الحديث ظلت صورة الأزمات التي تواجهها الدولة نمطية حد التناسخ؛ ازدحام، عشوائية، تعليم، صحة، بطالة، طُرق مُنهَكة، فئات مهمشة، لكن المفارقة أن مستوى تأثر الروح الوطنية المصرية بكل تلك الأزمات لم يكن بالسالب يومًا، وكان ذلك سِمة من أهم سِمات المجتمع المصري الذي استطاع بكل ما يمتلكه من تراكمات حضارية وإنسانية أن يتفاعل مع المشاكل التي يستعصي عليه حلُها، تارة بالأدب الشعبي الإبداعي فى كل تجلياته، وأخرى بالروح الساخرة التي كانت تدفعه أحيانًا إلى السخرية حتى من نفسه، وكان قاموسه دائمًا راقيًا فى مفرداته وتعابيره، وسلوكياته يُغلفها النُبل والشهامة، ولم تكن مصر يومًا فى دائرة غضبه بل كانت فى نفسه ذات مكانة تصل حد التقديس مهما كانت طبيعة الأزمة التي يمر بها.
ربما كُثر لا يدركون أن المكونات القيمية للشخصية المصرية الفريدة كانت حائطا منيعًا وسببًا رئيسيًا من أسباب حماية الدولة، بعد الله، من الانهيار فى 2011 و2013، حافظت تلك القيم على بقاء الدولة من التلاشي أو التفكك رغم التكالب عليها شرقًا وغربًا، كانت يد الله معها دائمًا فى تجاوز كل ما حِيك ودُبر بِليل ضدها، وسطر المجتمع المصري بموجبها ملحمة وطنية تضاهي ملحمة انتصارات أكتوبر العظيمة بل قد تفوقها إن أخضعناها للتحليل والنقاش، لتبقى مصر كعادتها (تاج العلاء فى مِفرق الشرق) وتُبهر العالم وتثبت أن المعدن الأصيل والنبيل للشخصية المصرية قائم ومتوارث على مر الأجيال، ليتيقن كل عدو أن هدم الدولة لا يكون فى الصدام مع تلك الشخصية أو إظهار العداء المباشر لها أو تهديدها تصريحًا أو تلميحًا، وأن قوة مصر هي فى المصريين أنفسهم، الذين هم دائمًا دُعاة بناء وتقدم وحضارة ولم يكونوا يومًا وعلى مر تاريخهم هادمين لسواهم عِوضًا عن أنفسهم، فقد شيدوا أعظم الحضارات الإنسانية فِكرًا وعلمًا وعِمارة، شيدوا حضارة جَسّد رموزها الفنان الأمركي العظيم إدوين بلاشفيلد على سقف مكتبة الكونجرس الأكبر فى العالم، ووضعها مُتصدرة سبع حضارات أخرى شهدها التاريخ الإنساني اتفق المفكرون والعلماء على أنها رفعت عن كاهل البشرية الجهل والتخلف والظلام.
إن تجاهل قيمة مصر فى نفوس البعض ونسيان أو تناسي عظمة الشخصية المصرية المُستندة فى عطاءها على تاريخ طويل من الإنجازات والحضارات هو خطر يفوق كل خطر، وإن إغراق المصري فى حملات ممنهجة من المحتويات التي تدفع به نحو جلد ذاته ليل نهار، هو من أصعب أنواع الاغتيالات التي يفقد فيها المرء قيمته عامدًا بما يشبه الانتحار، يدير ظهره فيها إلى حقيقة أنه عظيم فى ذاته وفكره وطموحه، وأنه قادر على بناء وطن يستحقه ويليق به وبعظمة مصر ودورها على مر التاريخ.
لقد كانت الشخصية المصرية رغم كل تلك الصعاب والاعتراف ضمنًا بقسوتها ومرارتها دائمًا توّاقة إلى الغد شغوفة بالحياة مُحفزة لها، لم تكن يومًا انهزامية، ولم يكن المصري على مر تاريخه فاقدًا للشعور بالأمل بل كان صانعًا وباعثًا لحضوره، ما جعله إحدى الأدوات الرئيسة والمهمة فى بقاء ونهضة الدولة المصرية، لا سيما وأن استمرار تمتعه بكل تلك القيم وتمسكه بها، يجعل استهداف الدولة أصعب، ومواجهة محاولات تقويضها أقوى وأشد، لذا فإن ما تعانيه الشخصية المصرية من تجاذبات خارجية على وجه الخصوص، هو نوع من الاستهداف المقصود بالغ الخطورة، هُندست ميادينه ونُسقت مساراته وُوضعت أدواته وُوفرت حواضنه، ليعاد تشكيل الوعي المصري من جديد بصورة مشوهة ومزيفة ومضللة، وبسلوكيات غريبة على مجتمعنا وأصالتنا، حد أن نجد من يتقوى بدول وجماعات على وطنه ويرتزق من ذلك، وحد أن نجد من ينفذ ويُعد وينشر المحتويات التي تنتزع من الشخصية المصرية كل شعور بالقيمة والإنسانية، وحد أن نجد من يزايد ويُحرض ويشكك ويُخوّن ويروج لمزاعم وأكاذيب ليست هدفًا فى ذاتها بل وسيلة لمحاولة تحييد الوعي المصري والتمهيد لاستبداله بعد تمزيقه تشويهًا وتزييفًا.
إن جولة مختصرة على أي تطبيق من تطبيقات التواصل الاجتماعي ومتابعة سريعة لمحتوياته الناطقة أو الناشرة بالعربية ذات العلاقة بالشأن المصري، تكشف حجم ما تعرّض أو يتعرّض له الوعي المصري من محاولات تشويه متعمدة فى جل الأوقات وتقديمه على غير حقيقته، عدا عن أن حالات الترويج المُريع والمريب فى آن للمضامين المسيئة للشخصية المصرية داخليًا أو أمام أشقائها فى بعض الدول تشير إلى أن ثمة صورة ذهنية مزيفة قميئة وعدائية تعاني نقصًا فى سلوكها وتفاعلاتها الإنسانية والفكرية، يُراد لها أن تتملك الفكر الجمعي المصري بشكل عام وتستلب العبقرية المصرية وتدفعها نحو تجاذبات تبتعد بها عن شعورها بقيمتها، بل وجعلها تشارك فى تلك العملية الممنهجة بمحتويات تعلو فيها قيمة الترند على قيمة الوطن بل على قيمة الشخص نفسه الذي يقدم هكذا محتويات أو يشارك بها دون علم.
إن التمسك بالشخصية المصرية الحقيقية المعتزة بإنسانيتها والمدركة لتاريخها ودورها، ليس نوعًا من المزايدات الوطنية الرخيصة التي يرتزق البعض منها، وليس نوعًا من التفاخر المنبوذ، وتكفى نظرة سريعة على سِير كل العلماء والعظماء والقادة الذين تخرجوا فى مدرسة الانضباط المصرية، لنكتشف أن هذا الشعور كان دافعًا لهم دائمًا على النجاح ومواجهة الصعاب والتغلب عليها والتأثير ليس فى تاريخ مصر وحدها بل فى تاريخ الإنسانية عامة بالعلم والفكر والرقي.

أضف تعليق

وكلاء الخراب

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2