حرب أكتوبر.. ذاكرة العظمة وفيلمها المفقود

حرب أكتوبر.. ذاكرة العظمة وفيلمها المفقودمحمود عبدالشكور

الرأى8-10-2023 | 09:35

لا أصدق أن نصف قرن قد مرّت على حرب أكتوبر، فمازلت أتذكرني، ذلك الطفل ذو السنوات الثماني، الذى يعاين فرحة وسعادة منزلية كبيرة، ويرى البهجة فى مدينة نجع حمادي، ويشاهد سيارات الجيش وهى تمر فى الشوارع، فيهتف مع الأطفال محييا: "ازيك يا دفعة"، ويستمع ويحفظ أغنيات الحرب الجميلة والساحرة، وخصوصا تلك التى أبدعها بليغ حمدي، وعلى رأسها نشيد "باسم الله"، الذى صار نشيد المدرسة الصباحى لوقت طويل بعد الحرب.

تحتفظ الذاكرة الصغيرة بتفاصيل عجيبة للغاية: هتاف أبى إعجابا بخطاب الرئيس السادات الشهير يوم 16 أكتوبر، وقد جلسنا أمام التليفزيون الأبيض والأسود لمشاهدته، وفرحتى شخصيا بفرحة أبى، إلى درجة التنطيط على السرير صعودا وهبوطا مثل لاعبى "الترامبولين"، وبرنامج "صوت المعركة" بلحنه المميز لأحمد فؤاد حسن، وصوت حمدى الكنيسى الرخيم، وهو يتحدث فى ظهيرة كل يوم عما فعلته الحرب داخل المجتمع الإسرائيلى، وأتذكر أيضًا ذلك اللقاء مع الأسير الإسرائيلى عساف ياجوري، بعد تدمير لواء الدبابات الذى يقوده، فى هجوم مضاد فاشل.

فى الذاكرة أغنية "أم البطل" لشريفة فاضل، فى تسجيل تليفزيونى لا ينسى، حتى كاريكاتير رخا العظيم، ما زلت أتذكر بعض تفاصيله، رسم موشى ديان مرتين: قبل الحرب بعصابته الشهيرة التى تغلق عينا واحدة، وبعد الحرب بعصابتين على عينيه الاثنتين معا، وله كاريكاتير شهير آخر تعليقا عن استخدام كلمة شفرة لاستدعاء الجنود الإسرائيليين من خلال الإذاعة، رسم مذيعة تستدعى الجنود عبر الميكروفون وهى تصرخ وتولول، أما كلمة الشفرة لاستدعائهم فهى: "يا دهوتىيييييي"!
أتذكر حتى الأغنيات الساخرة من إسرائيل مثل، أغنية سيد الملاح: "تحية لجيشك يا مصر العظيم/ لأحمد وبطرس وعبد العليم/ ولادنا اللى خلّوا العدو اللئيم/ على أرض سينا يسفّ التراب"، وموال شكوكو البديع: "مغرم صبابة يا بابا بتلت ستّات/ بستة أكتوبر وسام ستة وست ساعات".

أول كتب قرأتها كانت تتناول حرب أكتوبر مثل "أسرار حرب أكتوبر"، وأول إعلانات تليفزيونية عن الأفلام الجديدة، كانت عن أفلام حرب أكتوبر، التى صارت شهيرة من كثرة تكرار عرضها، مثل أفلام "أبناء الصمت" و"بدور" و "الرصاصاة لا تزال فى جيبى".
فى كل مناسبة، وبالذات بعد مرور نصف قرن على الحرب، لا أملّ من تكرار ما كتبته هنا من قبل، من عدم وجود أفلام كبيرة عن الحرب، رغم ضخامة الإمكانيات، ووجود ميزانيات، وتطورات تقنية، يمكن أن تترجم لحظة العبور، والمعارك العظيمة على الشاطىء الشرقى للقناة، وبطولات المقاتل الفرد، الذى وقف لأول مرة فى التاريخ فى مواجهة الدبابة، مما جعل حرب أكتوبر توصف بأنها: "حرب اللحم فى مواجهة الصلب".

ذكرت من قبل أن مشاهد يوم العبور لم تصور سينمائيا، ثم أرسلت بعثات من المركز القومى للسينما بعد أيام، نجحت فى تصوير بعض المعارك، التى وظفت فى أفلام تسجيلية قصيرة شهيرة أنتجها الجيش، مثل فيلم "الشرارة" و"درع وسيف"، ولكنى أعتقد أن كثيرا من هذه المادة لم يتم استغلاله، وظل محفوظا فى العلب.

أما السينما الروائية، فقد كانت وقتها تعد فيلما عن حرب الاستنزاف بعنوان "أبناء الصمت" عن قصة بنفس الاسم للكاتب مجيد طوبيا، ومن إخراج محمد راضى، فأضيفت مشاهد العبور إلى نهاية الفيلم، ليكون لدينا أفضل فيلم تقريبا عن مقدمات الحرب، مع أنه فى الحقيقة عن حرب الاستنزاف، تماما مثل فيلم "أغنية على الممر" الذى صور وعرض قبل حرب أكتوبر، و فيلم "الرصاصة لا تزال فى جيبى" عن قصة لإحسان عبد القدوس، ومن إخراج حسام الدين مصطفى، الذى كان أيضا فى معظمه عن فترة ما بعد 67، واستعانوا فيه بمخرج أجنبى قام بتنفيذ معاركه، وكذلك مشاهد العبور، وقد حكى لى مدير التصوير الكبير سعيد شيمى، وكان وقتها مصورا صغيرا، أنهم استخدموا ذخيرة حية فى القصف، مما جعله على وشك أن يفقد حياته فى أحد المشاهد.

ثم جاء فيلم "بدور" الساذج برموزه الواضحة، وبقصته الميلودرامية، ليختزل الحرب فى عدة مشاهد هزيلة، وهو نفس الأمرالذى حدث فى فيلم "حتى آخر العمر" من إخراج أشرف فهمى، وفيلم "الوفاء العظيم" من إخراج حلمى رفلة، ورغم أن مشاهد العبور فى نهاية فيلم "العمر لحظة" من إخراج محمد راضى أطول وأفضل نسبيا، إلا أن الفيلم نفسه عن سنوات حرب الاستنزاف، وكان التناقض بين صمود الأبطال على الجبهة، وبين مجتمع الهزيمة فى القاهرة، والرواية التى كتبها يوسف السباعى نشرت أصلا قبل حرب أكتوبر، وحتى فيلم "حائط البطولات" الهزيل من إخراج محمد راضى، كان أيضا عن فترة حرب الاستنزاف، وليس عن حرب أكتوبر، وتحديدا عن إنشاء حائط الصواريخ.

اللافت أيضا أن الأفلام التليفزيونية الشهيرة مثل "الطريق إلى إيلات" من إخراج إنعام محمد على، و"حرب الكرامة" من إخراج على عبد الخالق"، تتناول وقائع حربية بعد 1967، ولا علاقة لها بحرب أكتوبر.
وإذا كان فيلم تليفزيونى آخر مثل "حكايات الغريب" من إخراج إنعام محمد على يتحدث عن شخصية عاصرت الحرب، إلا أنه دراما اجتماعية بالأساس تشكل الحرب خلفية لها.

أما فيلم "الممر" للمخرج شريف عرفة، فهو أيضا عن فترة حرب يونيو 1967، وقد حقق نجاحا كبيرا، كان يجب أن يدفع لإنتاج فيلم أكبر عن حرب أكتوبر.

هذا فى الوقت الذى تعثرت فيه مشاريع أفلام روائية كثيرة عن حرب أكتوبر من قبل، منها مثلا فيلم كان سيكتبه الراحل أسامة أنور عكاشة، ومنها فكرة قدمها مدير التصوير سعيد شيمى عن ملحمة موقع كبريت، ومنها فيلم كتبه الراحل فايز غالى، مؤلف "الطريق الى إيلات"، عن وقائع يوم 8 أكتوبر.. وياله من تعثر غريب وعجيب ومريب.

لكن أفلاما تسجيلية جيدة أنتجت عن حرب أكتوبر، مثل فيلم "عبد العاطى صائد الدبابات" من إخراج خيرى بشارة، ومثل فيلم "جيوش الشمس" لشادى عبدالسلام"، ومثل فيلم المخرج أحمد راشد القوى والمؤثر "بطل من بلدنا"، ومثل فيلم المخرج هاشم النحاس عن معرض الغنائم بعنوان "مبكى بلا حائط"، وكلها أفلام يجب إعادة عرضها ومناقشتها، ولكنها ليست كافية أبدا، كما أن لدينا طوفانا من اللحظات الدرامية العظيمة فى الحرب وقبلها، يمكنها أن تصنع أفلاما روائية عظيمة ومشوقة وناجحة.
خدوا مثلا هذا الموقف: إسرائيل تشعر بأن الموقف خطير، هناك من أبلغها بأن مصر ستشن الحرب يوم 6 أكتوبر، تطلب جولدا مائير وزير خارجيتها أبا إيبان فى أمريكا، لبيلغ الأمر إلى كيسينجر، فيتصل كيسينجر بدوره بمحمد حسن الزيات وزير خارجيتنا، اللى كان وقتها فى نيويورك، ويرجو منه ألا تبدأ مصر بالحرب، عندما يتصل الزيات بحافظ إسماعيل مستشار الأمن القومى لإبلاغ رسالة كيسينجر، تكون الحرب قد بدأت فعلا من ربع ساعة.
والمعروف مثلا أن القوات المسلحة أعلنت عن فتح باب أداء العمرة للعسكريين قبل رمضان 1973 مثلما يحدث كل عام فى الصحف، بل وصدرت أوامر بقبول طلبات من يرغب كالعادة، وكان ذلك جزءا من خطة الخداع الاسترتيجية.
فى هيئة العمليات التى يرأسها الجمسى، كان اللواء فاروق فهمى يلح على أداء العمرة، الرجل لا يعرف أن الحرب قريبة، والجمسى يعرف الموعد، اللواء فاروق يلح، والجمسى يرفض الموافقة، بحجة أن على اللواء أن يترك الفرصة لغيره، لأنه اعتمر من قبل.
تحت الإلحاح وافق الجمسى، وهو يعرف تماما أن الحرب ستندلع، ولن يتمكن اللواء فاروق من السفر، وهذا ما كان.
اشترك الاثنان فى المعركة، وتعاهدا على أداء الحج بعدها، وتم ذلك ، هذا موقف درامى جيد ممكن يكون جزءا من حكاية الحرب.
أتمنى ألا تكرر الأجيال القادمة أمنيات إنتاج فيلم عظيم عن حربنا الأعظم، فى مناسبة مرور مائة عام على حرب أكتوبر!.

أضف تعليق