يمكن النظر إلى سينما المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي بصورة أعمق باعتبارها أفلاما عن الأفكار التي شكّلت أمريكا، ويمكن أن نراها باعتبارها تحليلا عميقا لكيفية تحوّل الأحلام إلى كوابيس.
فيلمه الأحدث «قتلة قمر الزهور» يتجاوز في رأيى معنى التعاطف مع السكان الأصليين أو الهنود الحمر، ليصبح فيلما عن أمريكا نفسها، ولينتهى إلى مواجهة أوهام حقيقية، أبسطها فكرة اندماج الجميع تحت مظلة واحدة، فلا يوجد اندماج بالمرة، بل محاولة محو أو إذابة.
سيبقى مجتمع السكان الأصليين مهمشا، ومعرضا للاستغلال حتى بعد تأسيس حكومة قوية وقادرة، فالمشكلة في السيطرة البيضاء، وفى نظرة عنصرية موجودة طوال الوقت.
الفيلم مقتبس من كتاب يستند إلى وقائع حقيقية، من تأليف ديفيد جران بعنوان «قتلة أوساج ومولد مكتب التحقيقات الفيدرالية»، و أوساج هذه قبيلة هندية فى أوكلاهوما، اكتشف البترول فى الأرض التى هجّروا إليها، فصارت القبيلة مطمعا لحثالة البيض، وارتكبت جرائم قتل لتصفية أبناء القبيلة، الذين أصبحوا من الأثرياء، كما انتشرت ظاهرة زواج البيض من فتيات القبيلة، للحصول على ميراثهن من عائدات البترول الضخمة، والمدهش أن القانون كان يعتبر هؤلاء الهنود من ناقصى الأهلية، ويخضعون للوصاية فى إنفاق أموالهم، والوصاية بالتأكيد من الرجل الأبيض.
ولكن السيناريو الذى كتبه سكورسيزى بالاشتراك مع إريك روث، يتجاوز الحكاية الأصلية، بتآمر مالك الأراضى وليام هيل (روبرت دى نيرو)، وابن شقيقه إرنست (ليوناردو دى كابريو)، على ثروة مولى زوجة أرنست الهندية (ليلى جلادستون)، وقيامهما بتصفية شقيقات ميلى وزوج إحدى الشقيقات، ليتأمل الفيلم ويفكك هذا المجتمع الأمريكى الخارج لتوه من الحرب العالمية الأولى، وليؤكد بذكاء أن الحرب موجودة أيضا داخل أمريكا فى حقبة العشرينيات، فينقلب حلم إرنست بالثراء، وجمع المال، الى كابوس للآخرين، رغم أنه يحب زوجته الهندية، ولكنه يحب المال أيضا، والخال لا ينقصه الثراء، ولكنه يريد المزيد جشعا وطمعا.
تتعرض ما يسمى بالقيم الأمريكية فى الصعود والمغامرة الفردية والأسرة إلى انهيار كامل، فالثراء هنا أقرب إلى الخطف والنهب، بل ونرى إرنست فعليا وهو يقوم بالسطو مع بعض زملائه، والخال أقرب إلى رجال العصابات، ويبدو مثل بطل فيلم «الأب الروحى»، بل ويستخدم وليام استشهادات دينية ثم يوظفها فى سياق دنيوي، وهو يصدّر صورة مثالية عن نفسه، بينما ينهمك فى جمع الثروة والتصفية الجسدية، أما الهنود فرغم محاولة دمجهم، وتغيير ديانتهم إلى المسيحية، وحفظ حقهم فى الثروة البترولية، إلا أنهم فعليا مهددون بالموت والقتل، ولن يتم التحقيق الجدى فى ذلك، إلا بذهابهم للشكوى للرئيس الأمريكى شخصيا فى واشنطن، وهناك تعمد لعدم رعايتهم صحيا، حتى يموتوا بداء السكري، ويرثهم أزواجهم البيض، والهنود عموما يشعرون بالخطر طوال الوقت، وفى الخلفية نرى جماعات الكوكلاكس كلان، وعمليات تصفية للسود أيضا، فى جرائم عنصرية حقيقية.
ورغم أن أمريكا فى الفيلم تجاوزت زمن الفوضى، وتخطت مرحلة ما قبل ولادة الحكومة الفيدرالية، إلا أن القتل السهل، والذى يميز أفلام سكورسيزي، ما زال موجودا، فأسهل شيء أن تستأجر قاتلا محترفا نظير مبلغ من المال، وهذا ما سيفعله وليام وهيل وابن شقيقته، وأحد أطفال إرنست سيحمل اسم «كاوبوى»ّ! والتصفيات الجسدية للحصول على الثروة ستطال أيضا رجلا أبيض تزوج من شقيقة مولى، والأهم من كل ذلك أن العائلة كقيمة أمريكية كبرى، تتعرض للتفكيك الكامل، ويتضح ذلك فى القسم الأخير من الفيلم الطويل (نحو ثلاث ساعات ونصف)، عندما يبدو إرنست حائرا بين أسرته الصغيرة (مولى وأطفالها)، وعائلته الكبيرة وعلى رأسها خاله الملك هيل (والده البديل)، الذى صار متهما بالقتل، ومحبوسا على ذمة التآمر على حياة أفراد قبيلة الأوساج.
فكرة العدالة والمساواة تتعرض أيضا للاختبار، فصحيح أن واشنطن تحركت أخيرًا، وأرسلت أعضاء مكتب التحقيقات الفيدرالية، الذى كشف جرائم وليليام هيل وابن شقيقته، وصحيح أن محاكمة قد أجريت وأدانتهما، وصحيح أننا نرى من بين المحققين شابا من الهنود الحمر تعبيرا عن محاولة الاندماج، إلا أن مشاهد النهاية الذكية والساخرة، والتى يظهر فيها سكورسيزى نفسه كممثل، تخبرنا بخروج وليليام هيل وإرنست بعد الحبس لسنوات، وكان الخروج بطريقة مشبوهة، وعاد الاثنان إلى أوكلاهما، وكأن شيئا لم يكن.
هذه إذن قراءة انتقادية بالعمق مضادة تماما للأفكار المؤسسة لأمريكا، فالعنصرية تحولت من الإبادة إلى التزاوج ثم القتل، والعدالة ليست مكتملة، والسكان الأصليون مهددون دائما، حتى فى ظل حكومة فيدرالية قوية وقادرة، وهم تحت الوصاية، ويعاملون كأنهم من فاقدى الأهلية، والذين يُستأجرون للقتل فى كل مكان، والقتل ذاته فعل اعتيادى وسهل، والرأسمالية ممثلة فى ويليام وأرنست ليست نتيجة العمل والجهد، ولكن نتيجة الميراث بطرق غير مشروعة، والأسرة كغاية محورية مفهوم يخضع أيضا لصراع المال والثروة، وزواج البيض والهنود ينتهى إما بالموت أو بالانفصال، مثلما يؤدى ارتباط بيضاء بشاب أسود إلى محاولة لسلب الجسد والإرادة، مثلما رأينا من قبل فى فيلم «الخروج» للمخرج جوردون بييل.
هذه أمريكا بين المثال والواقع تطبيقا على حالة هنود يفترض أنهم مندمجون، ويتكلمون الإنجليزية، مثلما يتكلم غيرهم لغتهم أيضا، ولكن عند أول امتحان تتبدى عنصرية واضحة، كما فى مشهد فرز الأجداد البيض لدرجة نقاء أحفادهم من زيجات مختلطة.
أرض أوساج مثل أمريكا تماما: هى أرض الفرص والثراء، وأرض الكرنفالات والاحتفالات، ولكن عندما يصل إرنست يرى معركة لا يعرف سببها، ولكنه يشارك فيها، تمهيدا لما سيحدث فعلا بعد ذلك، حيث تتحول أرض الفرص، إلى أرض العنف والقتل والموت.
رسمت ملامح الشخصيات الثلاث المحورية بشكل جيد: ويليام هيل الذى يبدو فيلسوفا يجمع بين الدين والرأسمالية وعصابات المافيا والبراجماتية معا، ومولى التى تختزن تراث أجدادها، وتجمع بين الرومانسية والروح العملية، وإرنست الذى يحب زوجته، ولكنه يعشق المال أيضا، وإن كان الجزء الأخير مضطربا نسبيا فى تحولاته، ولم تنقذه إلا مشاهد النهاية المدهشة.
هناك فريق تقنى ممتاز كالمعتاد، وبالذات موسيقى روبى روبرتسون، التى حولت الصراع بين البيض والهنود إلى معادل موسيقى، ثم جعلت الصوت الهندى سائدا وصارخا فى مشاهد النهاية، وتصوير رودريجو برييتو وخصوصا فى مشاهد الهنود وهم يحتفلون، أو ينتظرون الموت الهادئ، أو مشاهد زهور القمر الجميلة، التى يقارن الفيلم بينهما وبين زيت البترول الأسود.
يمنح سكورسيزى ممثليه دائما أدوارا ذهبية، مع تفصيلات مدهشة فى الأداء، فيبدع دى نيرو ودى كابريو فى دوريهما، وتصبح ليلى جلادستون الرائعة على نفس المستوى، وبينما يتحول إرنست تدريجيا فى تفصيلة عبقرية إلى نسخة فى تعبير الوجه من خاله المجرم، ويتحول الاثنان فى حركة الشفاه المائلة إلى أسفل إلى نسخة من وجه دون كوروليونى فى الجزء الأول من «الأب الروحى»، فإن الوداعة والبساطة فى أداء ليلى جلادستون تذكرنا دوما ببشاعة ما يحدث من مؤامرات ضدها، فكأنها الزهرة البرية حرفيا، وقد تجسدت فى صورة امرأة، وكأن وليام وإرنست الذئاب البرية، فى صورة رجال مهذبين.
كان يمكن بالتأكيد الاختصار والتكثيف بالذات فى الجزء الأخير من الفيلم، ولكن عالم سكورسيزى هنا يبدو شبه مكتمل، بهذا المزيج بين العنف والسخرية، وبين النعومة والقسوة، وبين التشويق والتحليل العميق، وبين الحياة الصعبة والموت السهل، مشاهد كثيرة ذكية وموحية تبقى فى الأذهان، كأن يظهر إرنست مباشرة مثلا بعد ظهور بومة الموت، ومثل مشهد اكتشاف البترول بالحركة البطيئة فى أول الفيلم، بعد مشهد دفن الغليون للهنود الحمر مباشرة، مع التحكم بشكل كامل فى الجو العام، والتوازن بين الحبكة البوليسية، والقراءة الإجتماعية والأخلاقية العميقة.
يتدفق السرد مثل الحلم، وفجأة تقطعه مشاهد فلاش باك قاسية، والانحيازات صريحة وواضحة، سكورسيزى ضد أمريكا المستغلة والمنحرفة، بل لعله يرى أن قبيلة أوساج هم الأقرب إلى الفكرة الأمريكية الصافية والمثالية، هم أمريكا الأصلية غير الملوثة.
مجلس القبيلة، وطقوس الصمت، والاقتراب من الطبيعة والسماء، أفضل بكثير من صخب سباقات السيارات، ومؤامرات القتل والاستغلال، وأكثر قداسة وصدقا من استشهادات وليام هيل بالإنجيل، ومن طقوس محفله الماسونى.
«قمر قتلة الزهور» من أفضل أفلام 2023 الأمريكية، ومن أفضل وأهم أفلام سكورسيزى، ذلك الشاهد على أمريكا، ماضيا وحاضرا، والذى يرى أمريكا سلسلة حلقات، فهذا الصراع لا ينتهى إلا بالعنف والفوضى، وحلم الإندماج لن يحققه القانون المكتوب، طالما أن العنصرية والجشع والعنف، ما زالت أفكارا تسكن العقول والقلوب.