فيلم جيد وذكي وطموح آخر تقدمه السينما السودانية، فبعد أن عرض فيلم «ستموت في العشرين» للمخرج أمجد أبو العلاء، عن قصة لحمور زيادة، في مهرجان فينسيا، وبعد أن فاز مخرجه بجائزة أسد المستقبل، عاد أمجد منتجا لفيلم سوداني جديد هو «وداعا جوليا» من كتابة وإخراج محمد كردفاني، والذي أصبح أول فيلم سوداني يعرض في مهرجان كان، وذلك في دورة هذا العام 2023، وفي قسم نظرة ما.
حتى لو لم يتم اختيار الفيلمين في مهرجانات دولية، فإن قيمتهما الفنية قائمة وباقية، خاصة أن السودان لم تتأسس فيه صناعة سينمائية، رغم كثرة مواهبه الفردية والجماعية. والفيلمان يجمعان بصورة جيدة لافتة بين الموضوع المحلي بكل عناصره، والتيمة الإنسانية، والتوظيف الجيد للغة السينمائية، مع الجرأة فى التناول والتشريح والكتابة، وكلها عناصر أساسية فى مخاطبة المتفرج فى كل مكان.
"وداعا جوليا" حكايته إنسانية بسيطة للغاية، بل لعلك تكون شاهدت من قبل هذه المرأة التي تشعر بالذنب، لأنها تسببت بشكل غير مباشر فى مقتل زوج امرأة أخرى، فتحاول أن تعوضها، بأن تجعلها خادمة فى منزلها، وتنشأ صداقة قوية بين المرأتين، رغم اختلافهما الكامل من حيث التعليم والطبقة الإجتماعية بل والهوية الوطنية شمالا وجنوبا، ولكن فيلمنا، والأفلام عموما، ليس هو الحدوتة أو الحكاية، ولكنه الأفكار التي تكمن وراءها.
فيلمنا يقوم بتشريح فكرة المساواة عبر عدة مستويات اجتماعية وسياسية، فيختبر كردفاني فكرة المساواة والتكافؤ بين منى (إيمان يوسف) وزوجها أكرم ( نزار جمعة)، الغيور المسيطر والمتشدد، وفكرة المساواة والتكافؤ بين منى ومخدومتها جوليا (سيران رياك) القادمة من جنوب السودان، ثم يختبر الفكرة سياسيا على مستوى شمال وجنوب السودان، لأن الأحداث تدور فى الفترة من لحظة سقوط طائرة جون جرنج، قائد الجبهة الشعبية فى الجنوب، التي خاضت حربا للانفصال، وحتى إعلان نتائج الاستفتاء الذي أدى إلى انفصال جنوب السودان رسميا عن شماله.
فى كل علاقة من هذه العلاقات فإن عدم التوازن، وعدم احترام الآخر، وتهميشه، وسلب إرادته، وعدم المصارحة، والنظرة الدونية للطرف الآخر، كل ذلك يؤدي إلى عدم المساواة، التي تدفع للتمرد والانفصال.
هذا ما سيحدث مع منى، التي تنفصل فى نهاية الفيلم عن زوجها أكرم، الذي قهر رغبتها فى أن تعود للغناء، وهذا ما سيحدث بانفصال منى عن جوليا، رغم ما حاولته منى بتقليل المسافة بينهما، وبدفع جوليا للتعليم، وبإلحاق دانيال، ابن جوليا، بمدرسة أيضا، ولكن العلاقة بين الطرفين قامت على الكذب، ومن الاتجاهين، ولذلك سينفصلان فى النهاية، وهو نفس ما سيحدث فى النهاية بانفصال الشمال عن الجنوب، حيث اقتربت نسبة المصوتين من أهل الجنوب لصالح الانفصال الى نحو 99%، ولو كان هؤلاء يشعرون بالمساوة، وعدم التهميش، ويعاملون نفس معاملة الشماليين، لما طلبوا الانفصال.
هذه العلاقة بالذات بين الشمال والجنوب نراها أولا فى وصف أكرم لأهل الجنوب بالعبيد فى أول مشاهد الفيلم، عندما يغلق أبواب بيته، خوفا من مظاهرات شغب قام بها أهل الجنوب فى الخرطوم، بعد مصرع جون جرنج، ثم يقوم أكرم فعلا بقتل زوج جوليا بالرصاص، بعد أن طارد منى إثر صدمتها بالسيارة لابنه دانيال، ثم يتضح البعد السياسي تماما من خلال شخصية ماجير (جير دواني)، الذي يحكي عن عدم المساواة، وأهمية المقاومة، والشخصية تتحدث تقريبا عن تفاصيل حياة جير دواني نفسه، سواء فيما يتعلق بتجنيده كمقاتل فى طفولته، أو فيما يتعلق بسفره إلى أمريكا لاجئا.
فى كل الأحوال، تفشل العلاقة مع الآخر إذا قامت على الكذب، وعدم التكافؤ، والنظرة الدونية، وعدم الفهم، والتهميش، وتشريح الفيلم لتلك العلاقة، بذكاء وجرأة، على أكثر من مستوى هو إنجازه الأكبر، ولولا مشكلات وثغرات واضحة فى السرد، لكان للفيلم مكانة أكبر وأعظم.
تتمثل الثغرة الأولى فى عدم تخلص منى من حافظة أوراق زوج جوليا فور أن أقامت معها جوليا وابنها فى المنزل، فهذا هو التصرف المنطقي بعد أن بدأت فى تعويض من هدمت حياتها، وهذه الحافظة ستبنى عليها علاقة الكذب بين منى و جوليا حتى النهاية، أي أنها عنصر أساسي فى البناء، كما أن موقف ماجير فى عدم تسليم أكرم للشرطة، رغم اكتشاف قتله العمد لزوج جوليا، بدا غريبا وشاذا، وبينما يقوم ماجير برفض جوليا لأنها تحمى أكرم، نرى ماجير مع جوليا ودانيال فى نهاية الفيلم.
من الثغرات أيضا صعوبة تصديق أن تواجه منى نفسها، وتتوقف عن الكذب، دون موقف كبير ومؤثر. هذه الشخصيات التي اعتادت على الكذب، لا تتحول إلى النقيض مهما تحملت من ضغوط، وخصوصا أنها استفادت فعلا من تلك الأكاذيب، كما أن الصدق سيهدم حياتها فعليا، سواء مع أكرم أو مع جوليا وابنها دانيال، وهم كل ما تملكه، لأنها غير قادرة على الإنجاب.
النصف الثاني من الفيلم أقل من النصف الأول، خاصة أن بؤرة الصراع انتقلت من إخفاء ملابسات قتل زوج جوليا، إلى صراع أكرم ومنى، وصراع جوليا وماجير، بينما كان يجب أن تظل تلك الصراعات الجديدة فى الخلفية، وتتواصل هواجس الكشف عن سر مقتل زوج جوليا، كحلقة وصل بين الجزءين، وبسبب انتقال بؤرة الصراع هذه، بدا وكأن الفيلم يؤسس صراعا جديدا، مع أن الصراع الأصلي موجود، وسيستعيده الفيلم بقوة فى مشاهده الأخيرة.
اختيارات الممثلين جيدة على وجه العموم، ولكن الملاحظة الأساسية ليست فى تعبيرات الوجوه، ولكن فى ضعف التعبير الصوتي، وعدم القدرة على تلوين الانفعالات بالصوت، بالذات فى طبقات الصوت المنخفضة، حيث نقترب كثيرا، وعند جميع الممثلين بلا استثناء، من الإلقاء الفاتر الخالي من التعبير.
ولكن محمد كردفاني مخرج مميز، عرف كيف يوظف كل إمكانيات الصورة، وشريط الصوت والأغاني، ولديه قدرة ممتازة على خلق الجو، سواء داخل بيت منى وأكرم، أو فى مشاهد كثيرة أخرى، مثل مشهد بحث جوليا عن زوجها فى توابيت الموتى داخل الكنيسة.
قد تكون هناك تفصيلات ساذجة نوعا ما، كالربط بين إصلاح سقف بيت أكرم، وبين بداية إصلاح منى لخطئه بمساعدة جوليا، ومثل الربط بين قصة العصفور الذي يغادر قفصه، مع بداية تفكير منى فى التحرر من سيطرة أكرم.
رغم هذه الملاحظات، هذا فيلم هام وجريء، فى تحليل علاقة الرجل بالمرأة والصديقة بالصديقة، والشمال والجنوب، ولدينا اتهام واضح للمتشددين، الذين لم يراعوا خصوصية سكان الجنوب، بأنهم من أسباب الانفصال، واتهام أوضح بالتهميش والتعالي بل والظلم تجاه أهل الجنوب، كما حدث فى قضية مقتل جوليا.
إنها محاولة للاستفادة من الدرس، بتأسيس جديد للعلاقة مع الآخر عموما على المحبة والتفاهم والتكافؤ والمساواة الحقيقية، وليس المساواة الوهمية والكاذبة، والتي تنهار عند أول مشكلة، وأمام أول عاصفة.
هل نستفيد جميعا من ذلك؟ أتمنى.