« شمس ».. دراما نفسية بالنوايا الطيبة!

« شمس ».. دراما نفسية بالنوايا الطيبة!محمود عبد الشكور

الرأى20-11-2023 | 13:25

أقدر كثيرًا كل من يحاول أن يصنع شيئًا مختلفًا، يكسر من خلاله القوالب النمطية والمتكررة، ولكن هذا التقدير لا يجعلنا نغفل مشكلات هذا الاختلاف، ولعل هذا هو أفضل ما نقدمه لصناع الأفلام، أى المصارحة والصدق معهم، وتحديد المشكلات والعيوب، ورصد المسافة الواسعة ما بين الطموح والنتائج.

وفيلم « شمس »، والمأخوذ عن قصة لطلال الطريفي، سيناريو فواز الخريشي، معالجة ورؤية للسيناريو والحوار محمد القوشتي، إنتاج سعودي، وبطولة لممثلين مصريين، وإخراج المصرى معوض إسماعيل، فى أول إخراج له، والتجربة بأكملها حافلة بالطموح والنوايا الطيبة، ولكن هذا الطموح، وتلك النوايا الطيبة، لم تساندهما دراسة حقيقية للحالة، التى يقدمها الفيلم، خصوصا أنه يلعب فى ميدان الدراما النفسية الصعبة.

المؤسف حقا، رغم الرغبة فى الاختلاف، أن ما شاهدناه لا يدل على دراسة نفسية للشخصية المحورية، ولا لتفاصيل مرضها وصدمتها، يضاف إلى ذلك أن السيناريو لم يحدد بالضبط وجهة النظر التى يحكى منها، مما أحدث تشوشا حقيقيا، كما أننا نعرف منذ المشاهد الأولى أننا أمام شخص مضطرب وغير طبيعي، وبالتالى فقدت مفاجأة النهاية تأثيرها، أما الحبكة الثانية فى الفيلم، وهى مأساة علاقة الحب بين صاحب الحالة، والمرأة، التى تزوجها، فهى ضعيفة ومفتعلة، ووصلت ذروة الافتعال فى الطريقة، التى ماتت بها الزوجة مع أنها الحدث المحوري، الذى سيؤدى إلى كل الأحداث اللاحقة، بسبب هذا الخلل فى بناء وسرد الحبكتين، جاءت النتيجة مشوشة، ومرتبكة، بنفس درجة تشوش بطل الفيلم.

سأفصل لك حالا ما أجملت، فبعد مشاهد أولى لمطاردات غامضة، يتم حصار خالد (محمود عبد المغني)، بوضعه على مقعد؛ ليتعرض لجلسة كهرباء، ثم نراه فى فندق غامض؛ فاقدا للذاكرة، ومن خلال فلاشات على مدار الفيلم، تكتشف الحكاية عن قصة حبه ثم زواجه من فتاة جميلة هى شمس (هدى الإتربي)، نعرف أنه مصور يعمل مع رئيس وكالة إعلانات شرير يدعى نبيل (محمد سليمان)، بينما يحاول رجل غامض هو د. فؤاد (عمرو عبد الجليل)، أن يساعد خالد على التذكر، بل إنه يذهب به إلى رجل يقوم بتحضير الجن والعفاريت يدعى حمادة المحندق (خالد الصاوي)، بدعوى أن خالد "ملبوس" بعفريت زوجته شمس، التى لن نعرف مأساتها معه، إلا فى المشاهد الأخيرة.

هاتان هما الحبكتان، اللتان تربط بينهما أسرار كثيرة: علاقة خالد بزوجته الراحلة، وحالته النفسية الراهنة المضطربة، وبحث د.فؤاد عن سر أزمة خالد النفسية، وبينما يتم بناء اللعبة بأكملها على أن ما نراه يتم فى الواقع داخل عقل رجل مريض، فإنك تشعر بتشوش كامل فى السرد أيضا، فهل الحكاية من وجهة نظر خالد تماما؟ أم من وجهة نظر د. فؤاد، الذى سنعرف فيما بعد أنه يعالج الشاب المأزوم؟ وما موقع المشاهد المشتركة بين خالد ود. فؤاد سواء داخل الفندق أو عند زيارة الدجال؟ هل نراها من وجهة نظر خالد أم من وجهة نظر موضوعية؟ وكيف تكون هناك مفاجأة فى مرض خالد إذا كنا نراه مضطربا من المشاهد الأولى، وكل شخصيات الفندق والدجال وبائع الجرائد (أحمد بدير) يبالغون فى الأداء بطريقة واضحة تجعلك لا تشك لحظة فى جنونهم؟!

الكارثة الأكبر فى الطريقة، التى قدمت بها شخصية د. فؤاد، والمفترض أن العاقل وسط هذا الجنون، فهو يبدو أبعد ما يكون عن شخصية الطبيب الذكي، ونراه يمارس التهريج وهو يحكى لخالد عن الجن والعفاريت، ولا يمكن أن نقتنع بحكاية ابنه الراحل، وتصل سذاجة رسم الشخصية، إلى درجة أن د. فؤاد يعتبر جلسات الكهرباء عقابا للمريض، وليست نوعا من العلاج، بل إنه يقول فى النهاية إنه لا يستطيع أن يجزم بأن خالد مريض فعلا، أم أنه يتمارض هربا من العقاب؟

تصل السذاجة والسطحية كذلك إلى الحدث الأساسي، الذى أدى إلى عقدة خالد، هو موت الزوجة، الذى يقدم بطريقة مضحكة وعجيبة، وهو أقرب إلى موت الصدفة، الذى لا يستدعى تأنيبا للذات أو هروبا منها، ولا يستدعى عقابا، يتطلب ادعاء الجنون، أو تداخلا مفتعلا بين مصحة عقلية وفندق غامض، أما حكاية عفاريت الحديقة، وعفريت شمس، فهى أقرب إلى النكتة، ليس لأنها لا تصلح كجزء من اللعبة، فهى مثلا الأساس لفيلم "الفيل الأزرق" بجزأيه، ولكن لأنها قدمت بكثير من الخفة والسطحية، وهو نفس الأمر الذى ينطبق على الجانب النفسى المحورى فى حالة مستر خالد.

انعكس هذا التشوش فى بناء الحبكتين، ورسم الشخصيات، على أداء الممثلين، فرغم الاجتهاد الكبير لمحمود عبد المغنى فى دور خالد، إلا أنه ظل حائرا فى الإمساك بشخصية غير مفهومة، فلا تعرف هل هو فاقد للذاكرة ؟ أم أنه يعانى من هلاوس سمعية وبصرية؟ أم أنه رجل ذكى يخدع طبيبه؟ أم أنه شخص يطارده أحد العفاريت؟ وكل حالة من هذه الحالات تتطلب أداءً مختلفًا، كما كان أداؤه مبالغًا فيه فى مشاهد ثورته على زوجته، وكانت هدى الإتربى أيضا على نفس الدرجة من الثورة والافتعال، بينما تأكدنا من أول ظهور لعلاء مرسي، بحركاته المعهودة، إنه شخص غير طبيعي، وهو ما ينطبق حرفيا على أداء أحمد بدير وخالد الصاوي، والمفترض ألا نكتشف ذلك إلا فى المشاهد الأخيرة، ولا حل سوى بأن يكون أداء كل هؤلاء جادًا منضبطًا وطبيعيًا؛ لأنهم ببساطة مرضى يصدقون أنفسهم، ولا يشعرون بأنهم مرضى، هذه هى محصلة الفوضى: مريض لا نعرف هوية مرضه، يعالجه طبيب معلوماته عن الطب النفسى مضحكة، ومجانين فى كل مكان خرجوا من قصة غرام مفتعلة انتهت إلى حادثة مفبركة.

لا إتقان لدراسة الحالة النفسية، ولا إتقان للجانب الغرائبى العفاريتى التشويقي، وكله يحدث بالنوايا الطيبة، بطموح مخرج شاب يريد أن يلفت الأنظار، فيستخدم المؤثرات الصوتية والبصرية بإسراف، ويحاول أن يخلق جوًا معبرًا فى كثير من المشاهد، سواء فى الفندق أو فى المصحة، وتوظيف جيد للإضاءة (أحمد فيجو)، وللموسيقى (خالد حماد)، ولكنه لا ينجح مع ممثليه كما شرحنا من قبل.

الدراما النفسية ليست مجانين هائمين بسبب حدث عشوائي، لكنها دراسة علمية متقنة قبل كل شيء، جلسات الكهرباء ليست عقابا للمرضى، لكنها تستخدم للتعامل مع حالات محددة، ضبط السرد من خلال وجهة نظر المريض، أو مزجه بمشاهد موضوعية تكنيك شديد الصعوبة والحرفية، نجد نموذجه الفذ مثلا فى الفيلم الأمريكى "عقل جميل" و إلا تحول السرد إلى فوضى لا ينقصها سوى أن يغنى المجانين معا على طريقة فيلم "بعد الشر" أغنيتهم الأيقونية الشهيرة: "أووه .. سطلانة.. سطلانة .. لانة لانة".

أضف تعليق