"عَلَم".. الهتاف وحده لا يكفي

"عَلَم".. الهتاف وحده لا يكفيمحمود عبد الشكور

الرأى17-12-2023 | 20:07

لم أتحمس على الإطلاق لـ فيلم عَلَم ، الذى كتبه وأخرجه فراس خوري، والذى حصد جوائز كثيرة مثل الهرم الذهبي لأحسن فيلم من مهرجان القاهرة فى دورته الـ 44 (2022)، وجائزة أفضل ممثل لمحمود بكرى فى نفس المهرجان، وحصل الفيلم فى المهرجان أيضا على جائزة الجمهور، كما فاز مخرجه بجائزة أفضل مخرج فى مهرجان مالمو بالسويد.

فقد اعتبرت الفيلم بسيطا وعاديا، يعالج موضوعه بكثير من الخفة، وفيه بعض المباشرة والصوت العالى والاضطراب، كما أن أضعف ما فيه أداء ممثليه.

لا يكفى فى رأيى أن يدافع الفيلم عن العلم الفلسطيني، بوصفه رمزا وهوية، فى مقابل احتلال استيطاني، يريد محو الهوية والتاريخ، فالمهم هو معالجة الفكرة، والدفاع عن القضية بطريقة فنية مبتكرة، أما الذى شاهدته فهو عمل ركيك ومتواضع.

الفيلم، الذى اشتركت فى إنتاجه شركات فرنسية وفلسطينية وتونسية وسعودية، ينحاز الى المستقبل، من خلال نماذجه وأبطاله، وهم خمسة من الطلبة، بينهم طالبة تدعى ميساء، قرروا فى مناسبة احتفال إسرائيل بعيد الاستقلال "15 مايو 1948"، وهو يوم النكبة بالنسبة للفلسطينيين، أن يحتفلوا على طريقتهم، بإزالة العلم الإسرائيلى فوق مدرستهم، ورفع العلم الفلسطينى بدلا منه، ولكن هذه الفكرة المدهشة، لم تساندها دراسة جيدة للشخصيات.

حيث تقاطعت كثير من مشاهد الفيلم مع أفلام تتناول حياة المراهقين وتمردهم، وعندما اقترب الفيلم من الخصوصية الفلسطينية، بدراسة الطلبة العرب لتاريخ إسرائيل وانتصارها وتحررها، كان الصوت يعلو، ويصبح السجال مباشرا، مثل مشهد مناظرة الطالب صفوت للمدرس، ورفضه لتعلم تاريخ مزور عن سنوات النكبة، وسنجد هذا الصوت العالى أيضا فى شخصية عادل، الذى يعترض فى مشهد مماثل على تزوير تاريخ القرى العربية، التى قام الاحتلال بطرد سكانها، ويستمر الأمر فى مشهد المظاهرة، وهو ذروة فى دراما الفيلم.

لا أتحدث هنا عن مضمون هذه المشاهد المهمة، ولا خلاف حول مغزاها، ولكنى أتحدث عن الطريقة التى قدمت بها، وهى نفس الطريقة التى يعلّق بها كلام مكتوب على الجدران على المواقف المختلفة، بصورة مباشرة وساذجة.

من ناحية أخرى، قدّم الفيلم المستقبل من خلال مراهقين، فيهم الكثير من الخفة والسطحية، وفيهم هذا الخليط، بين الدافع الوطني، وبين التمرد الطبيعى الذى يغلب على أصحاب هذا السن، فى كل زمان ومكان، بالإضافة الى إظهار جيل الآباء فى صورة خانعة، مثل والد تامر "عمر بكري"، الذى يكرر فى كل مشاهده بصورة ركيكة، تحذير ابنه من التورط فى أى نشاط سياسي.

هذه الصور ظالمة للغاية، وفيها الكثير من التنميط والإساءة، فلا جيل المستقبل يمتلك حكمة ووعيا، تعادل عاطفته وحماسته، ولا جيل الكبار يمتلك شجاعة، ويالها من رؤية سلبية ومزعجة أيضا، وهى بالطبع غير مقصودة، ولكنها مشكلات المعالجة، والتناول السطحى للموضوع.

نتوقف أيضا عند رمز رفع العلم، بكل أهميته، فقد تظن أن السيناريو يعى ذلك، ولكن الفيلم يفاجئنا بمشهد بين صفوت وزميله تامر، يقلل فيه صفوت من أهمية العلم، ويقول إنه لا يشعر ناحية علم فلسطين بمثل هذه الأهمية، فلماذا يتحمس إذن لرفع العلم؟! ثم يقول صفوت نقلا عن والده:" إن أول خطوة للتحرر هى رفع العلم.. وأعظم خطوة للتحرر هى تمزيق العلم"، وهى جملة غريبة محشورة، تسلب رفع العلم رمزيته، وتعيدنا من جديد إلى فكرة اضطراب المعالجة والكتابة.

سيتواصل الاضطراب بعد المظاهرة التى سيقتل فيها صفوت، وسيدفع ذلك تامر أخيرا إلى الذهاب مع صديقته ميساء "سيرين خاص"، لرفع العلم، وكأنّ الأمر كان يتطلب موت صديقه، حتى يتخلص من خوفه وتردده، ولكن المشهد الأخير الختامي، يخصصه الفيلم لعم تامر "يلعب دوره الممثل المعروف صالح بكري"، والذى يشعل النار فى شجرة "زيتون فى الغالب"، تعبيرا عن انفجار قادم، وقد عرفنا فى مشهد سابق أن هذا العم اعتقله الاحتلال، مما أدى لوفاة والده، وعندما عرف الشاب المعتقل بموت والده، أصابه الجنون، فصار يشعل ما يشاء من نيران.

اختتام الفيلم بمشهد العم غير موفق أيضا، فالرجل مجنون، ويمثل جيلا آخر، وليس جيل الشباب، والحكاية بأكملها مفتعلة، إذ لا يوجد رابط بين مظاهرة الشباب، ونيران العم، الذى نراه وهو يشعل نيرانا، بشكل عشوائي.

هذه مجرد أمثلة توضح الاضطراب والتشوش فى دراما الفيلم، يضاف إليها أداء الممثلين الضعيف على وجه العموم، والمشاهد الحوارية التقليدية كتابة وإخراجا، مما أضاع فكرة كان من الممكن أن تصنع عملا مميزا، لو عولجت بلغة الفن، لا بحماس العاطفة والوطنية.

قل ما شئت، ودافع عن وطنك وعلمك، ولكن اصنع فنا، وسمات الفن الذكى فى فيلم "عَلَم" قليلة وشحيحة، ولا تكافيء فكرته، ولا جهد الحصول على التمويل، ولا جهد تنفيذه.

ما يبقى على الشرائط هو ما تم تصويره فعلا، وليس النوايا، أو محبة الأوطان والأعلام، وأفضل طريقه لكى تخدم قضيتك، أن تعالجها بفن، وليس بحماس أو بمظاهرة أو بهتافات مباشرة.

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء (2)

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2