يقدم المؤلف و المخرج عمرو سلامة فى فيلمه " شماريخ " تجربة مثيرة للاهتمام على مستويات متعددة، نحن أمام فيلم أكشن محكم الصنع، رغم أنه يتسع كذلك لمبالغات النوع ولكنه يحاول أن يقدمه بطابع خاص، وبتأثرات واضحة من مصادر شتى، يوظفها لخدمة حكايته، وهو من ناحية ثانية لا يكتفى بظلال الشخصيات، حركتها الظاهرية، لكنه يريد أن نراها من الداخل بأن نعرف تاريخها ودوافعها، نتفهم سلوكها، إذا كان ذلك بديهيا فى أى كتابة درامية إلا أن أفلام الحركة تنشغل عن ذلك عادة بالمعارك والإبهار، الفيلم بالإضافة إلى ذلك لا يخلو من فكرة يمكن تلخيصها بتقلب الطبيعة البشرية، صعوبة الحكم على الإنسان عموما، كما أن فكرة صورة الأب وتأثير ذلك على الشخصيات من أبرز الأفكار، التى يطرق الفيلم أبوابها، مع جرأة واضحة فى المعالجة.
يمكن أن تلمح تأثيرات واضحة فى الفيلم من سينما تارانتينو، بروح ساخرة تخفف من قسوة المواقف العنيفة والدموية أما المعارك فهى تستلهم الأكشن فى الأفلام الكورية، واستعان عمرو فيها بمصمم معارك من كوريا، وهناك جو عام يجعلنا فى عالم على تخوم الواقع، أى ليس واقعيا تماما، وإن كان يحاول أن يقدم لمسات مصرية فى مسألة صناعة البمب والألعاب النارية إلا أنه أقرب إلى عالم .
والسرد من البداية من وجهتى نظر بطل الفيلم وبطلته، يؤكد هذه الفكرة عن العالم الخاص للفيلم.
عمرو سلامة عموما يحاول فى كل فيلم أن يقدم تجربة مختلفة، ومنذ بدايته فى فيلم «زى النهاردة» فإنك لا تستطيع أن تتوقع ما سيقدمه مع كل فيلم، مع طموح كبير يؤثر أحيانا على نضج أفلامه وتكاملها، وأفلام مثل «زى النهاردة»، «أسماء»، «لامؤاخذة»، «الشيخ جاكسون»، «برة المنهج» بينهما مسافات واضحة فى المعالجة والطموح الفنى والنضج والمستوى، وإن كانت فكرة العلاقة مع الآخر وضرورة تقبله رغم اختلافه متكررة وملحة لديه.
فى «شماريخ» تعود هذه الفكرة أيضا بمولد قصة حب بين اثنين من عالمين متناقضين تماما، بل إن أحد الأطراف مكلف بقتل الطرف الآخر، فالقاتل المحترف رؤوف، الذى يطلقون عليه أيضا اسم بارود آسر ياسين ، يكلف بقتل المحامية أمينة أمينة خليل ووالدها المحامى الشهير على الهواري سامي مغاوري ، الذى يعرف الكثير عن نشاط عصابة، تدير مصنعا لل شماريخ (الألعاب النارية) تستخدمه كستار لأعمال غير قانونية، مثل تجارة السلاح، ولكن رؤوف ينقذ حياة أمينة، وتقوده الظروف إلى أن يصبح مطاردا معها، مستهدفا مثلها من عصابة الشماريخ.
فى أفلام كثيرة تكفى تيمة الانتقام ومشاهد الحركة، لكن الفيلم يرسم الشخصيتين بكثير من التفاصيل الاجتماعية والنفسية، تبدو علاقة كل شخصية بالأب محورية فى فهم السلوك والتصرفات، أمينة مثلا تريد الانتقام من قاتل أبيها، بينما يريد رؤوف الحصول على الاعتراف من والده العاهل خالد الصاوى بأنه ابنه الشرعى من خادمة أنجبه منها، والعاهل لديه ابن شرعى (كريم الشرقاوى)، ينافس رؤوف على قيادة عصابة الشماريخ، بعد دخول الأب فى غيبوبة.
هذه التفاصيل، مع تعمد كسر تابوهات كثيرة فى العلاقات الاجتماعية، بما فى ذلك قتل الأب أو تحطيم صورته، حتى لدى أمينة، التى ستكتشف حقيقة والدها المحامى على الهوارى مع محاولة تغيير زاوية رؤية كل طرف للطرف التالي، وعلاقة الحب، التى تنشأ بين طرفين ملوثين بطريقة ما، كل ذلك منح المعالجة الكثير من الاختلاف، بالإضافة إلى مسحة كوميدية ساخرة، تخرج من مواقف دموية وعنيفة، الاستفادة من مصادر شتى لأفلام الحركة، ضمن إطار البحث عما وراء السلوك الإنساني، لا أن نراه فقط من الخارج.
حياة الخارجين عن القانون، عدم وجود خطوط حمراء لديهم، ساعد عمرو على هذه الجرأة، ورغم أن خط علاقة الأخ الشرعى بزوجة أخيه كان الأضعف والأكثر افتعالا، إلا أن علاقة رؤوف بجده مهدى (الممثل السودانى محمود السراج)، كان هو الأفضل والأكثر قوة، وفى كل الأحوال فإن قدرة عمرو سلامة على سرد حكايته الغريبة، وضبط إيقاعها، وكتابة حوار جيد، كانت مميزة على الأقل مقارنة مع ما نشاهده فى الأفلام المصرية من مشاكل فى الكتابة والسرد والتشويق.
توظيف المعارك كان جيدا وتنفيذها أيضا، وظلت شخصية الطفلة الصغيرة فى الفيلم مفتاحا للبراءة وسط هذا العالم الدموى، الذى سقطت فيه كل القيم التى نعرفها، كما أن الطفلة ستمثل حلا أخيرا للإنقاذ.
ورغم أن رؤوف متورط مع العصابة، ورغم أن أمينة بدورها ستقوم بالقتل، تحاول الانتقام لأبيها بعيدا عن القانون والمحاماة إلا أن الفيلم يرى بطليه جديرين بفرصة ثانية، ويرى أن الاثنين واجها ظروفهما بشجاعة، حاولا الخروج من المستنقع، كما أن علاقة الحب بينهما منحتهما بعض الامتياز، وفى كل الأحوال يجب أن نرى البشر كما هم، وينبغى أن نحكم عليهم بما يستطيعون، وبما حاولوا، وليس بما نريدهم أن يكونوا عليه.
يمكن أن تقرأ الفيلم بأنه محاولة للتحرر من سيطرة الأب أو رفض تقليده كنسخ مكررة، بأن تكون أمينة محامية مثل أبيها، ويرث رؤوف عصابة أبيه، واللافت إلى أن الدراما تنطلق من قتل والد أمينة أو الشك فى انتحاره ثم تتعقد الأحداث بغيبوبة الأب والد رؤوف، مما يتيح لابنيه حرية أكبر فى الاختيار والاستقلال، ويقوم ابنه الشرعى بقتله فعلا، كما أن جد رؤوف، وهو والد رؤوف البديل، يتم قتله أيضا، وصورة والد أمينة المحامى المحترم تهتز تماما أمام ابنته فى النهاية.
وبينما يعمل رؤوف طوال الوقت على أن يحل محل أبيه فى قيادة عصابة الشماريخ، وأن يحصل على اعتراف منه بأبوته، فإنه لن يجد فى النهاية أبا يعترف به، بل إن أخاه غير الشرعي، سيحاول أن يقتله، ملجأ أمينة الوحيد هو رؤوف، والعكس صحيح.
لاشك أنها فكرة جريئة للغاية، وخصوصا أن صورة العائلة فى الفيلم منهارة تماما، والآن على الجيل التالى أن يصنع حياته، لن يكون التحرر سهلا، ستكون هناك جثث كثيرة فى الطريق، وانفجارات هائلة لمصنع الألعاب النارية، ولكن سيتم الخلاص فى النهاية، وتبقى الطفلة على شاطئ هذا العنف، تصاب فى منتصف الفيلم، وتعود إليه لإنقاذ البطلين فى نهايته.
يتميز الفيلم بعناصر جيدة كثيرة أبرزها بالطبع كتابة وإخراج عمرو سلامة، ونجاح آسر ياسين وأمينة خليل فى دوريهما، سواء فى المشاهد الجادة والمؤثرة أو فى المشاهد المرحة، كما أعطى سامى و مغاورى وخالد الصاوى والممثل السودانى محمود السراج ثقلا كبيرا للفيلم ولأدوارهم، وكانت لفتة جميلة إهداء الفيلم إلى روح مصطفى درويش، الذى ظهر ضمن أحداثه، فى دور أخير مميز.
أما كريم الشرقاوى بملامحه وطريقة أدائه المصطنعة فقد كان أقل من الجميع فى الأداء، والملاحظة الأهم هى عموما طريقة الإلقاء السريعة فى معظم المشاهد، التى جعلتنى لا أستطيع متابعة الحوار بالعربية، وألجأ فى أحيان كثيرة إلى الترجمة الإنجليزية على الشريط، هذه مشكلة كبيرة جدا فى الفيلم.
من عناصر الفيلم المميزة أيضا صورة كيم ميكيل ومونتاج أحمد حافظ وموسيقى إسماعيل نصرت وحسن أبو علم، وديكورات إسلام حسن، ملابس غدير خالد.
يظل الأكشن وعالم العصابات نوعا سينمائيا يمكن أن يقال الكثير من خلاله، المهم هو دراسته بشكل جيد، ومحاولة الإضافة من خلاله، وهذا ما فعله عمرو سلامة، وهذا ما يجعل فيلمه مثيرا للاهتمام.