منذ نحو العام تقريباً، عرضت في هذا المكان مقالي، الذي رويت فيه قصة حفيدتي، التي حصلت على شهادة الثانوية (الأبيتور) من المدرسة الألمانية، ونظراً لتفوقها، فلقد حصلت على منحة من الحكومة الألمانية، للالتحاق بجامعة ميونخ، واستكمال دراستها بها.
ولصعوبة اتخاذ قرار كهذا، أرجأت القرار إلى اجتماع العائلة الأسبوعي، يوم الجمعة، عندما يجتمع جميع أفراد العائلة، أبناءً وأحفاداً، لنتشارك سوياً في اتخاذ القرار، هل تسافر فرح إلى ألمانيا وحدها، وهي تلك الحفيدة الصغيرة. وأذكر يومها أن حفيدي الصغير، سمير فرج، قال دعونا نتعرف على المزايا والعيوب من سفرها، لنتمكن من اتخاذ القرار الصائب.
عندما نشرت ذلك المقال، فوجئت بتلقي المئات من ردود القراء الكرام، معظمهم مؤيد لسفرها، بل كنت استمع لآراء القراء وجهاً لوجه، عندما يصادفونني في الأماكن أو المناسبات العامة، كالمطاعم، والمتاجر التجارية، أو حتى حفلات الأفراح، فكانوا يسألونني عما إذا كانت فرح قد سافرت أم لا.
وبالفعل سافرت حفيدتي الحبيبة، فرح، إلى جامعة ميونخ، لتبدأ دراستها الجامعية في ألمانيا لمدة ثلاث سنوات، وبعد أن اجتازت عامها الأول بنجاح وتفوق، تم ترشيحها، مبكراً، لمنحة للحصول على درجة الماجستير، من ذات الجامعة. ويومها، أيضاً، عقدنا الجلسة العائلية لنقرر هل ستستمر فرح في ألمانيا للحصول على الماجستير؟ وانتهى قرار العائلة، في تلك الليلة، إلى أن تقبل هذه المنحة للحصول على درجة الماجستير.
وعادت فرح، هذا الأسبوع، في أجازتها الصيفية، لتطرح علينا معضلة جديدة، ستستدعي أن تجتمع العائلة غداً الجمعة، لاتخاذ قرار جديد، أحسبه أصعب بكثير من سابقيه. بدأت القصة بحصول فرح على (A+)، أي تقدير امتياز مرتفع، فاستدعاها رئيس قسم الدراسات العليا بالكلية، وعرض عليها منحة دراسية جديدة، للحصول على دبلوم، فيما يسمى تخصص التخصص، وقدم لها امتيازات خاصة لهذه الدراسة، تتمثل في سكن مستقل في شقة "دوبلكس"، بدلاً من سكنها الحالي في استوديو صغير، إضافة إلى مصروف جيب يتضاعف ثلاث مرات عما تتقاضاه حالياً، وتذاكر مجانية لمترو الأنفاق والسكة الحديد، طوال مدة الدراسة الممتدة إلى عامين، فضلاً عن ثلاث تذاكر طيران مجانية، كل عام، ذهاباً وإياباً إلى مصر، خلال إجازات الكريسماس والربيع والإجازة الصيفية.
واستفسرت حفيدتي، عن ماهية هذه الشهادة، وعما إذا كانت بديلاً عن شهادة الماجستير، خاصة أنها ترغب في استكمال دراستها العليا، حتى الدكتوراه، في ألمانيا. فأجابها أستاذها بأن الماجستير والدكتوراه شيء آخر، مؤكداً أن تفوقها يضمن لها الحصول على منحتي الماجستير والدكتوراه، إلا أن هذه المنحة، لدبلوم تخصص التخصص، شيء آخر، لا تمنح إلا لعشرة فقط من الطلاب المتفوقين، كل عام، بينما منحة الماجستير فيحصل عليها خمسين طالباً. وبعد التخرج من دبلوم تخصص التخصص، يحصل الطالب على راتب عند العمل في الشركات الألمانية، يوازي ثلاثة أضعاف راتب الحاصل على درجة الماجستير، وضعف الحاصل على درجه الدكتوراه. وأكد لها أستاذها، بأن ما يعرضه عليها يعتبر فرصة العمر، لأي طالب يدرس في ألمانيا، لأن يكون من ضمن هؤلاء العشرة، ثم نظر إليها قائلاً، أنها ينبغي أن تكون أسعد طالبة في الكلية، هذا العام، بعدما وقع عليها الاختيار، مبكراً، بإجماع كل أستاذة الكلية، نتيجة لتفوقها، فابتسمت، فرح، وطلبت منه بعض الوقت، لاستشارة عائلتها في مصر، قبل اتخاذ قرارها. فنظر إليها أستاذها، قائلاً، أنه لأول مرة سيخالف القانون، بمنحها تلك المهلة، نظراً لانتمائها لأحد دول الشرق الأوسط، وعلمه بعاداتها وتقاليدها، بينما يتوقع ممن تعرض عليهم مثل تلك الدرجة العلمية، أن يكونوا قادرين على اتخاذ القرار بأنفسهم، دون الرجوع لأي شخص. ومنحها رئيس القسم مهلة أسبوعان، حتى عودتها من إجازة الصيف، للرد فوراً هل ستقبل منحة دبلوم التخصص، أم ستكمل دراستها في درجة الماجستير.
واستفسر أستاذها عما إذا كان استطلاع رأي الأسرة يتعلق بالعادات والتقاليد في مصر، أم لأسباب أخرى، فأجابته حفيدتي، فرح، بكل جرأة وصراحة، قائلة "سيدي ... لدينا في مصر مقولة، لفنان مصري عظيم، اسمه عادل إمام، في أحد مسرحياته ... ’بلدنا بلد شهادات’ ... وحيث أن هذا الدبلوم ليس معترفاً به في مصر، طبقاً لقوانين المجلس الأعلى للجامعات، على عكس درجة الماجستير، وتتطلب معادلته، إن أمكن، العديد من الإجراءات والشهادات، لذلك يجب أن استشير عائلتي. فتبسم الدكتور الألماني، ابتسامة عريضة، بعدما اتفقا على الحصول على ردها النهائي بعد أسبوعين، على أقصى تقدير. وعليه، فإن الأسرة ستجتمع صباح الغد، لاتخاذ واحداً من أهم القرارات في مستقبل حفيدتي فرح.
ولقد عرضت ذلك المقال، ليس لأحكي حكاية، ولكني تذكرت ما أثاره الكاتب الكبير، موسى صبري، رحمه الله، منذ عدة سنوات، عن حصول بعض أبناء أعضاء هيئة التدريس في الجامعات المصرية، على أعلى الدرجات والتقديرات، بغير وجه حق أحياناً، بما يؤهلهم للتعيين في كلياتهم، بينما يُحرم من تلك الفرصة، طلاب آخرين، نابغين، ومتميزين، وعلى درجة عالية من الكفاءة، لمجرد أنهم ليسوا أبناءً لأعضاء هيئة التدريس، وهو ما أعتقد أنه مازال سارياً حتى الآن.