كلما هل علينا عيد الميلاد المجيد ، نستعيد معاً قصة حب الله اللامتناهية للبشر وأتوقف كثيراً أمام كلمات السيد المسيح التي تجيب عن سؤال لماذا جاء المسيح بهذه الكيفية العجيبة؟، وقد سجلها لنا القديس يوحنا في إنجيله؛ وهي تأتي في سياق واحدة من المواجهات بين السيد المسيح وبين أحبار اليهود وقادتهم، معلنا لماذا جاء، فيقول «أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» والحياة الأفضل تبدأ هنا علي الأرض، وقد حدد السيد المسيح معالم الطريق إليها، عبر عظاته وفي مقدمتها ما يعرف بالعظة علي الجبل، والتي تعد برنامج عمل لكل من يبحث عن السلام والطمأنينة، وفيها صحح العديد من المفاهيم التي استقرت والتي كانت ترسم العلاقات علي قاعدة التعامل بالمثل، فإذا به يؤسس لقاعدة مغايرة محورها العطاء والحب الباذل، وعقد في كلماته العديد من المقارنات؛ قيل لكم أما أنا فأقول، ونكتشف أن ما قاله يرسم دستوراً إنسانياً محاوره: الحب والسلام والعطاء والبذل والتسامح، وحين نراجع القواعد التي قامت عليها المؤسسات الإغاثية الإنسانية الدولية نجدها ترجمة لصيقة الصلة بما أوصي به السيد المسيح .
يفتتح السيد المسيح كلامه بتطويب كل من استطاع أن يضبط سلوكه وحياته علي منظومة قيم السلام والوداعة والرحمة.. دعونا نقرأ معاً ما سجله لنا الأنجيل :
وَلَمَّا رَأَي الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَي الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا: «طُوبَي لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. طُوبَي لِلْحَزَانَي، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ. طُوبَي لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. طُوبَي لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَي الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ. طُوبَي لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ. طُوبَي لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ. طُوبَي لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ. طُوبَي لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ»
وفي نفس السياق، ينتقل بسامعيه الي تصحيح ما استقر عندهم ويضعهم علي طريق تجفيف المنابع ليقطع الطريق علي كثير من مسارات السقوط، «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَي أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ. فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَي الْمَذْبَحِ، وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئًا عَلَيْكَ، فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ. كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَي الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَي الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَي فِي السِّجْنِ.اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّي تُوفِي الْفَلْسَ الأَخِيرَ!»..
«قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَي امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَي بِهَا فِي قَلْبِهِ.. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَي تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَي جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَي تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَي جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ».
ويواصل وضع قواعد للحياة السوية فيقول: «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَي ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ». «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَي خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّه». «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَي مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَي الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَي الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَي إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟ فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ».
وفي ذكري الميلاد، نجد ثمة تقارب بين الهوي المصري الذي شكله الموروث الحضاري ووثقته البرديات وجدران المعابد والتي يحث فيها المصري القديم أبناءه علي التعامل بحنو مع البشر والزرع وكافة المخلوقات وحماية النهر وتقديم العون للمستضعفين وإغاثة من يلجأون إليه، والذاكرة المصرية مازالت تحتفظ بترجمة هذه التعاليم والوصايا في واقعة لجوء العائلة المقدسة لمصر، وكيف أحسن المصريون وفادتها، في تنقلها في ربوع مصر بل وحولوا نقاط مرورهم إلي أماكن عبادة فيما يعرف بمسار العائلة المقدسة، واللافت أن إحداها، دير المحرق في أسيوط، يحسبه الحجيج الإفريقي نقطة انطلاق أساسية في طريقهم إلي القدس لا تكتمل رحلتهم بغير زيارته والصلاة فيه.
ولا يكاد بيت مصري، أياً كان معتقده الديني، لا يكاد يخلو من إطلاق اسم مريم علي إحدي بناته، فضلاً عن الفلكلور الشعبي الذي يحكي في أهازيجه كيف أحب وارتبط المصريون بالقديسة العذراء مريم بامتداد التاريخ منذ اللحظة التي قصدت فيها مصر طلباً للحماية.
لعلنا ندرك طيفا من سر حماية الله لمصر التي حظيت بوجود المسيح وأمه لنحو ثلاث سنوات فوق أرضها وبين ناسها وأهلها.