قبل أن أحدثك عن التعاون الأول بين المخرج خالد يوسف ونصوص الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة من خلال فيلم " الإسكندراني "، لا بد من الإشارة إلي أن ما رأيناه علي الشاشة ليس هو السيناريو الكامل الذي طبعه أسامة في شكل كتاب في العام 1992، بعد فشل محاولات كثيرة لتحويل السيناريو إلي فيلم، وبترشيحات متعددة لمخرجين ونجوم، لكن يوسف قام بتعديلات وحذوفات مهمة، ولذلك كتب علي الأفيش: «عن قصة وسيناريو وحوار أسامة أنور عكاشة »، كما أنه كتب في تترات الفيلم: «معالجة درامية خالد يوسف ».
وقد قرأت السيناريو المطبوع في كتاب، وأري أن تغييرات وحذوفات يوسف كانت جيدة وفي موضعها، لكننا سنتحدث عمومًا هنا عن السيناريو الجديد كما ظهر علي الشاشة، أي نص عكاشة الأصلي، وبصمة وإضافات خالد يوسف كمخرج وككاتب معًا.
بشكل عام نحن أمام تجربة مهمة، لا تبتعد كثيرًا من حيث الفكرة عن اهتمامات عكاشة، وقدرته الفريدة علي قراءة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وتأثيرها علي الجوانب السلوكية والأخلاقية، وطرح رؤيته حول كل ذلك، كما أن الفيلم يدور في الإسكندرية، التي خصص لها عكاشة أكثر من عمل درامي، منها مثلاً حلقات "الراية البيضا"، والفيلم يتقاطع مع هذه الحلقات في فكرة ظهور إسكندرية أخري طفيلية، تريد أن تزيل الإسكندرية القديمة.
ومن ناحية أخري، أهدي خالد يوسف الفيلم إلي روح يوسف شاهين، أستاذه عاشق المدينة العظيمة التي ظهرت في أفلامه، كرمز للحرية وللانفتاح علي العالم، وكنموذج للتعددية الكوزموبوليتانية، والفيلم تحية للإسكندرية في الغناء والفلكلور، وفي الأماكن أيضًا، مع تحذير واضح من اختفاء إسكندرية شاهين القديمة، لصالح إسكندرية جديدة، يباع فيها كل شيء.
لكن مشكلة «الإسكندراني»، رغم أهمية فكرته، في أن الحكاية والفكرة اتجهت إلي الجانب الميلودرامي الزاعق، بالذات في النصف الثاني من الفيلم، بينما كانت البداية أقرب إلي تراجيديا مصرية معاصرة، تستدعي التأمل رغم حضور العواطف والمواجهات العاصفة.
لم يكن المزعج تلك التتابعات الكثيرة لمشاهد الأكشن في مصر وفي إيطاليا، فالدراما تحتمل ذلك، وتنفيذ هذه المشاهد كان جيدًا، لكن المشكلة في هذا الصراخ والصياح الذي سيتصاعد في الأجزاء الأخيرة من الفيلم، وفي وجود بعض الثغرات الدرامية، وفي تلك النهاية التي تعلن موت وقتل القبح والشر، بينما يفترض أن الحكاية تحذر من انتشاره وتمكنه وحضوره.
أقول إن الفكرة لامعة حقًا، لأن الإسكندراني المقصود في العنوان ليس هو فقط تاجر الأسماك الحاج علي الإسكندراني " بيومي فؤاد "، والذي يمثل الأصالة والجدعنة، بل إنه يمثل الشخصية المصرية، في العمل وفي الفرفشة، لكن العنوان يشير أيضًا إلي إسكندراني آخر هو الابن بكر الإسكندراني " أحمد العوضي "، الذي لم يفلح في تعليم، ورفض أن يعمل مع أبيه، بل إنه سرقه ثم سافر إلي إيطاليا، ليخوض مباريات الكيك بوكس، ثم ليسرق إحدي العصابات، ويعود غنيًا إلي الإسكندرية، فيشتري كل دكاكين الأنفوشي ، ويسيطر حتي علي وكالة والده، وينتقم من ابن عمه (محمود حافظ) مساعد والده، والذي تزوج من حبيبته قمر " زينة "، وأنجب منها طفلاً.
هنا أساس بناء درامي قوي للغاية، قائم علي مواجهة بين أب وابنه، وصراع لا يتوقف بين الإسكندرية القديمة الجميلة، من خلال الحاج علي، حارس الأصالة، وبين إسكندرية التهليب والتخليص الجمركي والممنوعات وإراقة الدم، ممثلة في الابن بكر.
الشخصية التراجيدية النبيلة هي الأب علي، الذي ارتكب خطأ بتدليل ابنه الوحيد، ثم ارتكب خطأ ثانيًا بتقريب ابن شقيقه، مما أثار غيرة الابن، وسنكتشف أن هذا المساعد القريب، ارتكب جريمة في حق بكر، ليستأثر نهائيًا بحبيبته قمر.
بناء الفيلم جيد إذ يبدأ في مشاهد العناوين من عودة بكر ثريًا من إيطاليا ، باحثًا عن التكويش والانتقام واستعادة حبيبته، بما يذكرنا بعودة جاتسبي العظيم، ثم نعود في فلاش باك طويل لأصل الحكاية، ولاكتشاف مجتمع الأب والإسكندرية القديمة، ويظهر الخواجة المتمصر تارجو " حسين فهمي " ، وابنته الصغيرة إيلينا، ويبدو بكر منحرفًا يمتلك طاقة تريد أن تتحقق.
هذا الجزء متماسك، رغم طول جمل الحوار، ورغم أننا لم نر حدثين مهمين نسمع عنهما، هما سرقة بكر لخ زينة والده، وموت الخواجة تارجو، ورغم أن الانتقالات المونتاجية كانت تقفز قفزًا أحيانًا، لكن الأداء منضبط إلي حد كبير، والتأثيرات العاطفية في موضعها، وهناك فرصة ومسافة للتأمل.
في الجزء الثاني بعد العودة، يتجه الصراع إلي الصوت العالي، ولا يبرر الفيلم تراجع المعلم الكبير علي أمام ابنه، بل صمته ووقوفه موقف المتفرج، ورغم تدخلات كلامية من المعلم علي، ولومه الشفاهي لابنه، إلا أن المعلم علي ظل يتفرج مثلنا علي التغيرات الكارثية التي يحدثها ابنه بشراء الإسكندرية، وتدخل فقط عندما حملت إيلينا من ابنه علي، بينما تشير كل الأمور إلي مصائب أخري قادمة، وخصوصًا مع انتقام علي من زوج قمر، ورغبته في تطليقها للزواج منها، بالإضافة إلي إدخال علي للمخدرات، وسيطرته علي الميناء.
لا يتسق هذا التسليم وعدم الفعل مع شخصية المعلم علي، يضاف إلي ذلك عدم اختزال كثير من التفاصيل، مما جعل هذا الجزء أقرب إلي الطابع المسلسلاتي، والحقيقة أن أفلام عكاشة السينمائية عمومًا تمتلك هذه «القماشة المسلسلاتية»، مما يتطلب الجرأة في الحذف والتكثيف، وقد بذل يوسف جهدًا معقولاً في الجزء الأول، لكنه وقع في أسر تفاصيل تشابكات علاقات الجزء الثاني، وصولاً إلي بكائية النهاية.
ظلت مع ذلك بعض نقاط التميز أبرزها نجاح يوسف في خلق أجواء الإسكندرية بطقوسها وأماكنها وأغانيها، وتحويل نص كتب في التسعينيات إلي نص راهن، ربما كان ينقصه تصاعد مد التطرف الديني السلفي في الإسكندرية، بالإضافة إلي تميز عناصر فنية كثيرة أبرزها موسيقي يحيي الموجي، وديكورات أحمد عباس الممتازة لوكالة السمك، وشوارع الأنفوشي ودكاكينها.
لكن النجاح الأهم ليوسف كان في تسكين الأدوار، واختيار ممثليه، كلهم في أماكنهم، وبأداء جيد، باستثناء عصام السقا في دور الصديق زكي، فقد بدا أبعد ما يكون عن هيئة وفجاجة وقسوة الشخصية.
كان أبرز المتميزين علي الإطلاق بيومي فؤاد ، الذي قدم أفضل أدواره السينمائية حتي الآن، والذي أثبت أنه مشخصاتي كبير، يظلمونه تمامًا بالاقتصار علي الأدوار الهزلية.
قدم بيومي شخصية علي بكل تفاصيلها صعودًا وانكسارًا، وكأب وابن بلد، وكانت مشاهد مواجهاته مع أحمد العوضي من أفضل مشاهد الفيلم.
لفتت نظري أيضًا طريقة حسين فهمي المميزة في أداء شخصية الخواجة، الذي يريد أن ينافس أولاد البلد المصريين، وكان فهمي مقنعًا وظريفًا.
ربما زاد يوسف من أجواء الميلودراما القائمة أصلاً في السيناريو المطبوع، لكن ظلت الحكاية مثيرة للاهتمام حقًا، خصوصًا مع قوة وجرأة الصراع بين الأب والابن، ومع التضحية بالابن علي غير المألوف، والانحياز إلي إسكندرية الأب، وليس إلي فوضي الابن.
ظلت في الذاكرة كذلك كلمات أغنية تتحدث عن فيلم مات بطله، ومسرح بلا جمهور، وبقي في الذاكرة أن يكون قانون الحياة في رقم اثنين، وليس في رقم واحد.
كانت كارثة عاشتها العائلة، وعاشتها المدينة الجميلة، وهذا معني الحكاية كلها: أن يولد الإسكندراني الفاسد والفالصو من الإسكندراني الجدع والأصيل، وأن يعشش القبح والشر في شوارع وميناء عروس البحر الأبيض المتوسط.