مقسوم.. في محبة الحياة والصداقة والفن

مقسوم.. في محبة الحياة والصداقة والفنمحمود عبد الشكور

الرأى4-2-2024 | 17:31

أحببت هذه التجربة كثيرا، بما تقدمه للمشاهد من طاقة محبة للحياة وللفن وللصداقة، وبتلك المواقف الإنسانية المرحة والمؤثرة، وببراعة المعالجة وذكائها، وبالتأكيد بالتعبير عن النص والشخصيات من خلال مخرجة متميزة، وفريق ممتاز من الممثلات والممثلين، وبعناصر تقنية جيدة.

أتحدث عن فيلم مقسوم من تأليف هيثم دبور، وإخراج كوثر مختار يونس فى أول أعمالها فى مجال الأفلام الروائية الطويلة، بعد تجارب مهمة ومميزة فى مجال الفيلم التسجيلي، وفى مجال الفيلم الروائى القصير، ولا شك أن "مقسوم" يعلن عن ميلاد مخرجة مهمة، يمكن أن تضيف الكثير، كما أن سيناريو الفيلم من أكثر محاولات هيثم دبور، توفيقا فى الكتابة، فليس سهلا أبدا أن توازن بين الخفة والعمق، وبين لحظات المرح، ومواقف إنسانية تبعث على الشجن، وليس سهلا أن ترسم ملامح عدد كبير من الشخصيات، وألا تنزلق إلى الاستطراد فى موضوع يسمح بذلك، وخصوصا أننا أمام ثلاث شخصيات نسائية مختلفة، لكل منها حكاية، وعليك أن تضفر هذه القصص معا، فى إطار سينما تهمش الشخصيات النسائية على الشاشة، إلى درجة أننا نبحث بالكاد عن دور جيد لممثلة واحدة فى نهاية كل عام، بينما لدينا فى "مقسوم"، ثلاثة أدوار نسائية معتبرة، لعبتها ثلاث ممثلات رائعات هن : ليلى علوي، وشيرين رضا، وسما إبراهيم، الثلاثة تؤدين معا بشكل جيد، ولكل واحدة منهن مشاهد مميزة، وأعتقد أنهن ستنافسن على جوائز أفضل الممثلات فى موسم 2024 السينمائى بكل جدارة.

ذكرتنى فكرة تجميع ثلاث مغنيات معتزلات لأول مرة بعد 30 عاما، بعد أن كن فى فريق غنائى شهير اسمه "اميتشي"، بفكرة الفيلم البريطانى البديع "quartet" أو "غناء رباعي"، الذى أخرجه داستين هوفمان، والذى يجتمع فيه أربعة من المغنيين والمغنيات فى سن الشيخوخة، لتقديم أوبرا "رجوليتو"، للاحتفال بذكرى الموسيقى الإيطالى جوسيبى فيردي، ولكن هيثم استلهم الفكرة ولم ينقل الشخصيات، واستلهم كذلك معنى الحكاية، وخصوصا فيما يتعلق باستعادة الصداقة، ومحاولة الميلاد الجديد، بعد تصحيـــــح أخطــــاء الماضي.

لقد ابتكر علاقات وشخصيات مدهشة، هند مثــــــلا (ليلى علــــــــوي) صارت وحيدة، لديها صديق واحد هو كلبها، تهرب بالخمر، ولا تستطيع رغم مرور السنوات أن تنسى انفصال زوجها عنها، للزواج من زميلة الفرقة، وإيمى ( شيرين رضا ) المفتونة بنفسها، تفرغت لعمليات التجميل، وللتسلط على حياة ابنتها وزوجها، وكانت إيمى أيضا أسيرة عقدة هروب زوجها من تسلطها، وانفصاله عنها، أما رانيا (سماء إبراهيم)، فهى أكثر الشخصيات تعقيدا، لأنها تبدو أسيرة شعورها بالذنب، بعد أن تزوجت من مدحت (سيد رجب) طليق صديقتها، وأسيرة حياة عائلية محدودة، لا تستطيع أن تهرب منها، إلا بالإنغماس فى الاهتمام بالأبراج.

تتجمع الصديقات باقتراح من المخرج أبو (عمرو وهبة)، ومساعدته (سارة عبد الرحمن)، فالمخرج يريد إكمال فيلمه بأغنية للفريق، وتصبح فرصة التجمع فى أسوان، آخر محاولة لمواجهة كل أخطاء الماضي، ومشاكله، وكذلك بالعودة إلى الغناء والحب والتفاؤل والصداقة. تكتشف كل شخصية مدى حاجتها إلى صديقتها، ومدى هشاشة حياتها الراهنة، وعلى إيقاعات أغنية مقسوم، أشهر الأغنيات القديمة للفرقة، يتضح للصديقات أنه من المقسوم لهن أن تستمر الحياة بطريقة أفضل، وتتعلمن أن الأحلام ما زالت ممكنة، وأنهم قادرات على تغيير حياتهن، واتخاذ القرارات الصعبة، حتى بعد أن تجاوزن سن الشباب.

وبينما يظل الإطار خفيفا وظريفا، وبينما يبدو كما لو أننا أمام صديقات تمتلكن عناد وحماقة الأطفال، فإن لحظات شجن ومواجة تذكرنا بمعنى الحكاية، ثم يفتح ال سيناريو أمام كل واحدة آفاق بداية جديدة: هند بعلاقة حب مع طيار يلعب دوره بحضور فائق المخرج هانى خليفة، وإيمى بانتظار ابنتها لطفل من زوجها، ورانيا بالعودة إلى الغناء، بعد أن تحولت لسنوات إلى زوجة وجدة نمطية.

ربما تمنيت أن تكون فكرة تجميع الفرقة مؤسسة على موقف أقوى من حاجة مخرج شاب لإكمال فيلمه، وخصوصا أن إمكانيات المخرج محدودة، وما أنفقه على رحلة الفريق يجعل أزمته مضاعفة، كما أن عدم إخبار المخرج لعضوات الفريق بالسبب الحقيقى لتجميعهن، أوجد ثغرة معلّقة لم تغلق فى نهاية الفيلم، وربما كان يجب أيضا أن يكون منطق مدحت وتحولاته، بعيدا عن الغناء أكثر تماسكا، فلم نعرف سببا وجيها لابتعاده عن مجال الغناء، رغم نجاحه السابق فى إدارة فريق "أميتشي".

ولكن مشاهد حفلة النهاية، ودفاع الصديقات الثلاث عن حلمهن الأخير، وأغنيتهن المرحة بكلماتها الجميلة، التى تتضمن فلسفتهن فى ترويض الحياة، وانتزاع السعادة من أنياب الخيبة والفشل، كل ذلك منح الفيلم حيوية وجمالا، ومنح التجربة تفردا وتأثيرا، خصوصا مع نجاح كوثر مختار يونس فى تقديم المشاهد المرحة، والمثيرة للشجن بكل براعة، واستخدامها لمونتاج ياسمين يونس، وموسيقى خالد الكمار، فى التعبير المكثف بالصورة عن أحداث كثيرة، وهو أمر موجود بالتأكيد فى سيناريو هيثم.

لكن نجاح كوثر الأهم كان فى اختيار وإدارة ممثليها: ليلى علوى فى أحد أفضل أدوارها السينمائية، شخصية هند مثل طفلة كبيرة، ولكنها تمتلك حكاية حزينة، رقيقة وعنيفة معا، وعلاقتها مع ابنة صديقتها إيمى من أفضل خطوط الفيلم، هنا يبدو وجه آخر لهند هو وجه الأم، كما يظهر الجانب الرومانسى فى علاقتها مع العريس الجديد، الذى تفهم شخصيتها رغم تعقيداتها.

شيرين رضا فى شخصية إيمى (الديفا) المفتونة بنفسها، لها علاقة إنسانية جميلة مع والدها المريض، تبدو مثل أمه، بينما تظهر مع ابنتها وزوجها مثل أب متسلط، وبينما تقنعنا بأنها متعالية ومغرورة، فإنها تثير الرثاء بمخاوفها، وباعترافها بالفشل عندما غنت بمفردها، بعد نهاية الفرقة، ومن أفضل مشاهد شيرين ظهور جوهر الشخصية الطيبة والطفولية، عندما عرفت بخبر حمل ابنتها.

أما سماء إبراهيم فقد كانت على نفس المستوى من الأداء المتفهم، بالذات فى أهم مشاهدها فى السجن، وهى ترجو هند أن تسامحها بشأن علاقتها مع طليقها مدحت، وبدون أن ينزلق الأداء إلى ميلودراما زاعقة، وهذا المشهد عموما نموذجى فى مزيج الخفة والعمق، الذى استخدم بنجاح فى معالجة فكرة الفيلم.

دور جيد آخر لسيد رجب، والثنائى عمرو وهبة وسارة عبد الرحمن، أكملوا بهجة وتميز الفيلم، مازال التشخيص من أقوى عناصر الفيلم المصرى عموما، بشرط توافر الكتابة الجيدة، والإخراج الفاهم.
«مقسوم»، ليس فيلما مسليا فحسب، ولكنه فيلم عن كيفية التعامل مع الحياة، عن القدرة على التغيير، على أن تفعل ما تحب مهما كان العمر، وعن الصداقة والغناء والفن، لولاهم لكانت الشخصيات تبكى على ال مقسوم والمكتوب، بدلا من أن تغنى بسعادة على إيقاعات المقسوم.

أضف تعليق

حظر الأونروا .. الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2