" رحلة 404 ".. مراجعة الذات وكشف الأقنعة

" رحلة 404 ".. مراجعة الذات وكشف الأقنعةمحمود عبد الشكور

الرأى11-2-2024 | 21:34

هذا الفيلم المهم ليس الأول في الحديث عن فكرة التوبة والمراجعة، ومحاولة تصحيح أخطاء وآثام الماضي، والبحث عن بداية جديدة بيضاء، فكلها أفكار تمتلئ بها أفلام ميلودراما الأبيض الأسود المصرية، نجدها مثلا في أفلام حسن الإمام ، وعز الدين ذو الفقار، بل يمكن مثلا قراءة فيلم شهير مثل "جعلوني مجرما"، باعتباره محاولة فاشلة للتوبة، ولكن فيلم " رحلة 404 "، من تأليف محمد رجاء، وإخراج هاني خليفة، يقدّم قراءة أكثر تعقيدا وواقعية وجرأة لنفس الفكرة، ويعمّق معني الصراع مع الذات، والصراع مع الظروف، كما أنه يمنح بطلته منى زكي أحد أفضل أدوارها في السينما، وفي الدراما عموما، ويثير بعض الجدل والنقاش، وخصوصا مع وجود ملاحظتين فنيتين مهمتين، قللا من تماسك الدراما، تحديدا فيما يتعلق بالنهاية المتفائلة والسهلة، والتي لا تتناسب في رأيي مع مقدمات التفاصيل والأحوال.

عثر محمد رجاء علي الشكل الدرامي المناسب لطرح فكرته بلا شك، بل إن حكاية غادة سعيد ( منى زكي )، الفتاة العاملة في مجال التسويق العقاري، صاحبة الماضي المريب، باحتراف الدعارة، ثم اعتزالها، جعلتنا أمام شخصية شديدة الثراء، وحافلة بالتناقضات، ثم يزيد الصراع بحصول غادة علي فرصة للحج مع والدها (حسن العدل في دور مميز)، ولكن حادثة مؤلمة للأم (عارفة عبد الرسول)، تستلزم مبالغ طائلة لإجراء عمليتين، تفتح الباب أمام اختبار صعب للغاية أمام غادة، التي تلجأ إلي عشاق سابقين، للحصول علي سلفة لإجراء العملية، وتصبح رحلة الحج نفسها مهددة بالإلغاء، لأن من الأولي أن توجّه أموال السفر ومصاريفه إلي إنقاذ الأم، بينما تري غادة في الحج فرصة ذهبية للبداية الجديدة، وللتكفير عن آثام الماضي، وللتوبة النهائية.

هنا موقف درامي مدهش، استفاد منه السيناريو بشكل مثالي، لأنه منح الفيلم عدة قصص ثرية ضمن القصة العامة، أي إن البناء سيقدم حبكات وقصصا قصيرة داخل الحبكة الأصلية، وفي إطار القصة الأكبر، فكل شخصية تلجأ إليها غادة للحصول علي المال، تفتح ثغرة في ماضي البطلة المشين، كما أن أنها تعرفنا علي قصة تلك الشخصية المتورطة غالبا في الاثم وفي أوحال الواقع، كما أن تلك القصص القصيرة تلعب علي فكرة عميقة هي الوجه والقناع، فمن الخارج تبدو تلك الشخصيات أنيقة وناجحة ولامعة، ولكن القبح يتبدّي حين نري حكايتها مع غادة، وشروط كل شخصية لإعطاء المال لها، وقد رسمت كل شخصية بدرجة جيدة من التفاصيل والاهتمام، بحيث يمكن القول إن الرحلة ليست فقط عن غادة، ولكن عن تلك الشخصيات، التي يختبر الفيلم معها فكرة الظاهر والباطن، والاستسلام للخطأ، أو محاولة مقاومته وتصحيحه، وغادة وحدها تبدو مصرة علي البداية الجديدة، بينما استسلمت تماما هذه الشخصيات لحياتها الخاطئة.

تأخذ رحلة البحث غادة إلي شهيرة ( شيرين رضا )، التي تدير حفلات للمتعة، وتقايض غادة علي العودة لقضاء ليلة مع رجل ثري، ثم صاحب بيزنس تسويق عقاري نصاب (محمد علاء)، يريد لغادة، عشيقة الماضي، أن تكون وسيطة في صفقة أرض مشبوهة، وننتقل من طارق ( محمد ممدوح ) الرجل الذي ترك غادة يلتزوج امرأة ثرية، إلي عشيق قديم هو ياسر ( خالد الصاوي )، ضاع بسبب حياة عائلية فاشلة، ونتيجة لخيانة زوجته، وصولا إلي زوج غادة السابق، الذي يحمل اسم طارق أيضا ( محمد فراج )، وهو يمتلك ماضيا مثقلا بالإثم والإدمان، ويمتلك كذلك سر الدائرة التي تلف فيها غادة بحثا عن أموال العملية، يتم تضفير هذه الحكايات ببراعة ضمن الحبكة الأصلية، ونجد مشاهد قوية مع كل شخصية، وبأداء بارع من كل الممثلين، وبإدارة ممتازة لهم، تعودناها من المخرج هاني خليفة، مع قوة واضحة للصراع، حيث تقرر غادة أحيانا الاستسلام، ثم تتمسك بالمقاومة، وتبدو وكأنها في كابوس حقيقي، وكلما واجهت ماضيها المشين، زاد إصرارها علي البداية الجديدة.

تضعف أحيانا فتسرق مجوهرات امرأة عجوز عرفتها بالصدفة، ولكنها تتمسك بطريق الأمل، لكي تلحق ال رحلة 404 المسافرة الي الحج، واختيار الرقم يذكرنا بالتأكيد بالخطأ 404 في الكمبيوتر، مما يستلزم التوقف للمراجعة والإصلاح.

رغم هذا البناء الطموح الذي يتعامل مع الضعف والقوة، والظاهر والباطن، والاثم والبراءة، واليأس والأمل، ويراوح بين السقوط والنجاة، تظهر ثغرتان واضحتان، الأولي بافتقاد ولو جملة حوار تشرح بها غادة سر يقظتها الدينية، والأخلاقية، وهي الأساس الذي ينهض عليه البناء كله، كل الشخصيات تشرح مواقفها إلا غادة محور الحكاية، وما نراه من موقفها وقوتها يحتاج إلي تأسيس أفضل، وإلي موقف فارق ومؤثر ساهم في تغييرها، وخصوصا أنها ستدعو زوجها السابق أيضا الي التوبة والحج!.

الثغرة الثانية في النهاية التي لا أراها مقنعة علي الإطلاق، بالنظر إلي أن شخصية طارق الحبيب المفقود، وشخصية طارق الزوج السابق، أبعد ما تكون عن فكرة العطاء والإنقاذ، وطارق الزوج بالتحديد مثقل بجرعة آثام وتشوش زائدة، ولا أظن إدمانه وحياته البائسة يسمحان بأي تخطيط أو قدرة أو طاقة علي اختبار الآخرين.

أتفهم جدا ضرورة أن يُكافأ سعي هذه المرأة المذهلة بطريقة ما، ولكن الاختلاف حول سهولة المكافأة، وحول عدم الإقناع الفني بذلك، وفيما وصل للمتفرج من ارتياح، لا أظن أن في واقع الشخصية، ولا في واقعنا عموما، ما يسانده ويدعمه.

هذه نهاية أخلاقية ووعظية متفائلة، لم يكن الفيلم في حاجة لها، لأن أهميته في العكس تماما، أي في إظهار صعوبة الاختيار تحت هذه الظروف، وفي إظهار شراسة وسهولة الانحراف، في مقابل صعوبة التوبة، وهو ما نجح فيه السيناريو قبل هذه النهاية، والإيحاء بأن الحج نهاية ليس صحيحا أيضا، لأن غادة ستعود من الحج إلي المجتمع المنافق والغارق في الاثم، أي ستعود إلي الاختبار من جديد، والدراما الناضجة لا تقدم إجابات أو حلول، ولكنها تنقل الأسئلة الصعبة إلي المتفرج، خاصة أن مشكلة غادة ليست دينية فقط، ولكنها مشكلة أخلاقية واجتماعية ودينية ونفسية، إنها تريد أن تكون نفسها، ولا تريد أن تعيش بوجهين في مجتمع يمتلئ بالأقنعة، بالضبط مثلما شاهدنا الشخصيات ترتدي الأقنعة في حفلة شهيرة الماجنة، والتي تبدو مستلهمة من الحفلة الشهيرة في فيلم ستانلي كوبريك الأخير "عيون مغلقة علي اتساعها".

قللّت هذه الثغرات من قوة التجربة دراميا، ولكنها لم تقلل أبدا من أهميتها، فمن النادر أن نري اهتماما برسم الشخصيات علي هذا النحو في فيلم مصري، رغم كثرة تلك الشخصيات، حتي العلاقة الغريبة بين غادة وأمها، وسر الصراع بينهما، وسر صراع غادة مع الأب، ومع زوجة الأب، كل ذلك كان في بؤرة اهتمام السيناريو، بالإضافة بالطبع الي القصص والحبكات الفرعية، التي تصب في النهاية في الحبكة المحورية.

أعود للإشادة بأداء مني زكي، هي محور القصة والمأساة، وقدرة هذه الممثلة العظيمة علي التعبير عن كل حالات الشخصية فريدة وممتازة، وتجسيدها الفذ للحظات القوة والهوان والانسحاق والأمل واليأس يحتاج إلي مقال مستقل، غادة عدة نساء في جسد واحد، امرأة متعددة الوجوه والانفعالات، تعاني صراعا داخليا وخارجيا شاقا ومرهقا، ولا شك أن مني ستنافس بهذا الدور علي جائزة أفضل ممثلة، كما سيرشح محمد فراج و خالد الصاوي تحديدا لجوائز الأفضل، وكذلك شيرين رضا في دور شهيرة.

مع فريق تقني متميز، خصوصا في المونتاج (محمد عيد)، والموسيقي التصويرية (سعاد بوشناق)، يعود المخرج هاني خليفة بعمل معتبر، يبدو هذا المخرج المتميز مهموما دوما بتفكيك فكرة النفاق والأقنعة، ومؤمنا بقدرة الإنسان علي المواجهة والمراجعة، وبأن يكون أكثر اتساقا مع ذاته ومع الآخرين، ويالها من أفكار مهمة وخطيرة، مهما تعددت المعالجات والسيناريوهات.

ويثبت محمد رجاء بهذا الفيلم أنه إضافة حقيقية للدراما السينمائية، لا يستسهل، ويمتلك الحرفة والصنعة، بقدر ما يمتلك جرابا واسعا يمتلئ بالشخصيات والحكايات، وأحسب أن أفضل ما سيحققه هذا الفيلم هو الجدل والنقاش وطرح الأسئلة، وتحريك الماء الراكد في حياتنا الخاملة.

أضف تعليق