الدين كله لله (1)

الدين كله لله (1)د. سعد الدين هلالي

الرأى10-3-2024 | 15:40

يبدأ استقرار المجتمع؛ لينطلق إلى العمل والنِّمو والازدهار مع حُسن العبادة لله من يوم أن يَسلَم ناسه من لسان أحدهم ويده، ويأتمن بعضه بعضًا على دمائهم وأموالهم.

هذا هو المجتمع المسلم المؤمن؛ كما تظاهرت النصوص القرآنية، والأخبار المرويَّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعضها فى خطبة الوداع، أى فى ختام وضع صورة الدِّين الكليَّة التى ستتوارثها الأجيال.

هذا الدِّين الذى يدعم السلام الاجتماعي، ويقوم عليه ليس من شعارات فارغة عن المضمون، وإنّما بجوهر حقيقته التي تقوم على تفويضه كلِّه لله بكل السُّبُل، ولو بمقاومة مُدَّعي الوصاية عليه، أو الولاية على المؤمنين به؛ كما قال سبحانة: «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» (الأنفال:39)، وقال جل شأنه: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله” (البقرة:193)

كانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومسيرتة منذ بعثته الشَّريفة فى مكة المكرمة ، حتى ختامها فى المدينة المنورة قائمة على تفويض الدين لله نظريًا وعمليًا معًا.

فبسبب هذا التَّفويض قاتَلتهُ قريش وغيرها من القبائل والأنظمة التي تجعل الدِّين لأوصيائه والولاية لفقهائه، مع تعدُّد الأديان والملل بالطوائف والجماعات والطُّرق بهُوِيَّاتها الدِّينيَّة المختلفة؛ حتى صارت الهُويَّة التي تتعايش بها الطائفة أو الجماعة أو أهل الطَّريقة بيعًا وزواجًا وتَعبُّدًا رهينة قيادتها الدِّينيَّة التي تملك على أتباعها نفوذًا مُقدسًا يُلزِمهم السمع والطاعة والإنفاق المالي اللائق بوضعهم الأدبي عليهم، ويتم توريث تلك القيادة الدينيَّة للمحظوظين من المُقرَّبين نسبًا أو صُحبة.

وبفضل إعلان النبي صلى الله عليه وسلم تفويض الدِّين لله، وأنه «لا إله إلّا الله» بدون وصاية أو ولاية، دخل الناس فى دين الله أفواجًا؛ فقد وجد كلُّ عاقل نفسه فيه، وعلم أن له فى هذا الدِّين مثل ما لغيره، وأن العلماء ورثة الأنبياء فى التَّبليغ والتَّعليم والبيان كسائر مُعَلِّمي العلوم النافعة والفنون الصالحة دون أن تكون لهم حظوة دينية زائدة، أو ولاية على دارسيهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أطلق على المؤمنين برسالته وصف الأصحاب وليس الأتباع أو المريدين، ومكَّن كل مُكلَّف منهم أن يكون فقيه نفسه؛ ليفتيه قلبه على الوجه الذي يرفع عنه الحرج، وطَمأنه بعفو الله عند خطئه غير المقصود، أو نسيانه، أو عند عجزه، أو إلغاء إرادته إكراهًا؛ فالحاكمية فى الدِّين على صاحبه إلى قلبه الذي يعلم وحده - بعد الله سبحانه - أنه مريض أو سليم، وهذا القلب هو من يرافق صاحبه يوم يحاسبه الله فردًا دون أن يُغني عنه نبي، أو رسول، أو ولي، أو والد، أو ولد، أو غيرهم.

وبهذا يحيا المؤمن فى هذا الدِّين - الذي يقوم على تفويضه لله - ببصمته الدينية المستقلة، التي تُميِّزه عن غيره، وتُمكِّنه أن يعيش بهُويَّته ذات السيادة على نفسه، فهو سيِّد قراره فى عقد الصفقات بيعًا وزواجًا وتَعَبُّدًا على الوجه الذي يراه بقلبه مرضيًا لربه؛ ليبقى التَّعبُّد لله غير خاضع لأي سلطة بشرية إلّا من ذاتيَّة القلب على صاحبه، وتكون ولاية الصفقات التعاقديَّة أو التَّعاهديَّة للعقد الذي أبرمه مع غيره، أو للعهد الذي تعاهد عليه مع أهل بيته أو قريته أو دولته فى صورة عرف حاكم، أو قانون مُلزِم، فيعيش الناس - بعد تفويضهم الدِّين لله - شعوبًا وقبائل بقيادة إنسانية أو مدنية واحدة، وليس بقيادات تزعم وصايتها الدينيَّة، وولايتها على أتباعهم فيما صنعوه من طوائف وجماعات وطُّرق وصفوها بالدِّينية.

لقد اكتشفتُ بعد خبرة ستين عامًا فى دراسة الفقه الإسلامي، وتدريسه، والتصنيف فيه باختلاف مذاهبه السُنيّة والشّيعيّة - بعد العمل بقاعدة القرآن الكريم والسُنَّة النبوية التي تُفوِّض «الدِّين كله لله» - سعة فقه الدّين ورحابته واستيعابه للآخر، حتى إن المسلم الحرَّ يستطيع أن يعيش بإسلامه لله كاملًا مع أي شعب من شعوب دول الشّرق أو الغرب أو الوسط، متى كان إسلامه لله استقلالًا، دون الخضوع لجماعة تنظيمية أو ممنهجة فى شكل طريقة أو تيّار مصطنع باسم الدّين للمتاجرة السياسية، أو مختلق بأكذوبة الفرقة الناجية للمكاسب المالية والاجتماعية.

وقد بدأتُ رحلتي التّعلُميّة يوم إكرام والديّ الحبيبين العظيمين - رحمهما الله - بإلحاقي بالتعليم الابتدائي العام سنة 1960م، وإلحاقي فى الوقت ذاته بكتّاب الشيخ «حسن»، وهو من أواخر جيل الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم بمدينة المنصورة. وبعد تأهّلي لدخول مسابقة الالتحاق بالتعليم الأزهري، واجتيازي امتحانها سنة 1965م بدأتُ المرحلة الإعدادية الأزهرية نظام أربع سنوات، وأخذت العهد على نفسي جبر خاطر والديّ الحريصين على هذا المسار التعليمي بالإخلاص فيه، وإكرامهما بشهادات التّفوق التي تميّزت بالدرجات النهائية فى أكثر المواد الدراسية، وخاصة مادة «الفقه الشافعي» الذي لم ندرس سواه من المذاهب إلّا فى المرحلة الجامعية والدراسات العليا، وهكذا كان حرصي على التّفوق فى المرحلة الثانوية نظام أربع سنوات، ثم المرحلة الجامعية فى كلية الشّريعة والقانون بالقاهرة نظام خمس سنوات؛ حتى تم تكليفى بها معيدًا فى قسم الفقه المقارن، ثم تدرّجت فى سُلّم المراتب العلمية إلى الأستاذية، ومرورًا ببعض الوظائف القيادية، ومنها عمادة كليتي الدراسات الإسلامية جامعة الأزهر فرعي أسوان ودمياط، ورئاسة قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت، ورئاسة قسم المقارن بكلية الشريعة جامعة الأزهر بالقاهرة، كما حصلت على العديد من الجوائز العلمية فى مصر وخارجها.

وكانت رحلتي مع الدراسات العليا بآفاقها الرّحبة - التي بدأتها عقب حصولي على ليسانس الشريعة والقانون سنة 1978م - تُلزمني وسائر الباحثين - فى الماجستير التي أنجزتها بامتياز سنة 1982م، والدكتوراه التي أنجزتها بمرتبة الشرف الأولى سنة 1985م، وأبحاث الترقية حتى درجة الأستاذية التي حصلت عليها سنة 1996م - الانفتاح على فقه المذاهب السنيّة والشيعيّة والدراسات القانونيّة؛ فاكتشفتُ رحابة الفقه بتعدديّاته، وكنوزه الخفيّة عن العامّة التي لو عرفها النّاس لوسع بعضهم بعضًا، وعاشوا بغير فتن دينيّة أو افتائيّة، وذاق كلُّ مكلَّف حلاوة سيادته على نفسه التي جاء بها الإسلام الخاتم الذي ارتضاه الله - عز وجل - للبشرية دينًا؛ كما قال سبحانه: «وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً» (المائدة:3). فهو الدِّين الذي يقوم على مكاشفة المُكلَّف بمسئوليته، وسيادته على نفسه؛ كما قال تعالى: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» (الإسراء:13)، وأخرج أحمد بن السُّني ت364هـ فى «عمل اليوم والليلة» عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلُّ نفس من بني آدم سيّد»، وأخرجه عبد الله بن عدي ت365هـ فى «الكامل فى ضعفاء الرجال» بلفظ: «كلُّ بني آدم سيّد»، وأخرج الشيخان عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلّكم راع، وكلّكم مسئول عن رعيته».

أضف تعليق