نجوم فى ذاكرة رمضان.. صلاح جاهين

نجوم فى ذاكرة رمضان.. صلاح جاهينمحمود عبد الشكور

الرأى26-3-2024 | 16:06

كثيرون يحبون حلقات "هو وهي"، العمل التليفزيونى الوحيد الذى قامت ببطولته سعاد حسني، وأخرجه يحيى العلمى فى العام 1985، دون أن يعرفوا أن جاهين هو كاتب سيناريو وحوار المسلسل المأخوذ عن قصص كتبتها سناء البيسي، ودون أن يلفت أنظارهم أن صلاح جاهين هو أيضا مؤلف أغنيات المسلسل، التى صارت أشهر من العمل نفسه، وبعض تلك الأغنيات مثل "البنات ألطف الكائنات"، و"ياتجيبلى الشاكلاتة"، و"خالى البيه"، صارت جزءا من الثقافة الشعبية المصرية، مثل كثير من أغنيات جاهين السابقة، سواء السياسية أو العاطفية، أو حتى أغنيات أوبريت العرائس الأشهر على مر العصور، الذى يحبه الكبار والصغار، وهو أوبريت "الليلة الكبيرة" من ألحان سيد مكاوي.
كثيرون أيضا لا يعرفون أن التتر وبعض أغنيات حلقات "بوجى وطمطم" الرمضانية الشهيرة للأطفال، من تأليف صلاح جاهين، وهى الحلقات التى أخرجها محمود رحمي، واستمرت 18 موسما، وأصبحت جزءا من ذاكرة الملايين.
فى كل هذه الأعمال الرمضانية، كان جاهين يجد فرصة لكى يبدع شيئا مختلفا وفريدا، مستلهما التراث الشعبى ومفرداته، ومكرسا طريقته البسيطة والعميقة، المصوّرة وخفيفة الظل، ومفتونا بالبحث عن الدراما والفكرة الجديدة، إلى درجة اعتقاد كثيرين أن جاهين هو أول من كتب الفوازير المعاصرة، وهذا غير صحيح، لأن أستاذه الشاعر العظيم بيرم التونسي، هو من أحيا الفوازير، والتى كانت تكتب شعرا فصيحا فى الماضي، ويتم تداولها فى جلسات السمر.
مع أول فوازير إذاعية للتونسى فى منتصف الخمسينيات، عاد هذا الفن قويا ومتألقا، خاصة مع جوائزه المالية، والتى بدأت بخمسة جنيهات فقط، وخصوصا أيضا مع صوت الراحلة آمال فهمى المميز، التى أكملت مشوار فوازير الإذاعة مع صلاح جاهين، بعد وفاة بيرم.
استمر جاهين يقدم فوازيره الإذاعية لسنوات طويلة مع آمال فهمي، بل إنه قدمها أيضا بصوت سعاد حسنى لمرة واحدة فى العام 1975، وفى العام 1968، قدم فوازير بعنوان "اليافطة"، كانت تلقى مقدمتها المطربة العظيمة ليلى مراد، وكانت كلمات المقدمة على النحو التالى :
«بعدالفطاربشوية
ناخدها كده تمشية
منبيتنا للمنشية
نتسلى نقرااليفط"
ويكمل الشاعر عرض فكرته:
"يفط فى أجمل نمط/ ويفط جايةغلط
ويفط تنور وتطفي/ ويفط تنورفقط
ويفط تخبيش فراخ/ ويفط خربيش قطط
ويفط تحفه مايونى / ويفط مجردغلط
نمرعلى كل يافطة/ بكلمتين حلوين
ونقطة منبعد نقطة/ يبان صاحبها مين»
أتذكر جيدا فى سنوات الصبا أن الجميع كانوا ينتظرون ما سيقدمه جاهين من فوازير مع نيللي، فلم تكن تلك فوازيره التليفزيونية الأولى، فقد سبقتها مثلا فوازير أقل نجاحا قامت ببطولتها زوجته منى قطان، ولكن نيللى كانت قد حققت نجاحا كبيرا مع فهمى عبد الحميد، خصوصا بفوازير "صورة و3 فوزاير"، التى صنعت إبهارا باستخدام خدع الكروما، وكانت وقتها شيئا فريدا، ومع ذلك، فسرعان ما جاءت التجربة التالية مباشرة محبطة للغاية، من خلال فوازير "التمبوكا"، التى كتبها ليلين الرملي، ولحن مقدمتها عمر خورشيد.
صارت الفوازير ومسألة استمرارها موضع شك، ولكن نجاح فوازير "عروستي" منحها قوة دفع كبيرة، بل إننى أزعم أن لعبة "عروستي" القديمة المندثرة عادت إلى الصورة من جديد بفضل تلك الفوازير، كما أتاحت لفهمى عبد الحميد أن يبدع ويضيف ويوظف الخدع التليفزيونية بطريقة مختلفة.
كانت "عروستي" بالضبط كما وصفها جاهين فى التترات: "كده نرجع بالفوازير للأصل/ لكن مش صورة طبق الأصل"، إنها لعبة الوصف بالكلمات، للبحث عن اسم الشيء، ولكن من خلال الاستعراض والأغانى والإبهار، هكذا رأينا نيللى فى التتر تسأل فى التتر مثلا: "مشمشة بتدور فى طبق بنور؟"، فتأتى الإجابة: "الساعة"، وتسأل نيللي:"قدّ الفيل ويتصر ف منديل؟، فتأتى الإجابة:"الناموسية"، وفى كل مرة فإن كلمة "عروستي؟" الإستفهامية هى عنوان اللعبة، وجزءا محوريا من بناء الحوار.
بعد نجاح "عروستي" جاءت فوازير "الخاطبة" لتستلهم أيضا مهنة مصرية قديمة منقرضة، فتدفع بها إلى المقدمة، ومن خلال الخاطبة، يدور السؤال عن مهن العرسان المختلفة، أو كما يقول جاهين :" مرة صحفى / مرة ترزجي/ مرة أجزجي".
باستخدام الغناء والاستعراض، وبكثير من الخيال، وبحضور شخصيات كارتونية تمثل العروس وأسرتها، صار التناقض حادا بين الخاطبة وطالبة العرسان، أى إننا أصبحنا أمام دراما ضاحكة تبدأ بـ " وآدى حسب الله/ لفلّة نادهنا / أصلها خجلانة ومكتئبة"، وتنتهى بفشل العروس فى تسمية مهنة عريسها، وبينهما الفزورة، سواء فى شكل غناء واستعراض، أو بطريقة الإلقاء المباشر، ولكن بأداء تمثيلى من نيللي.
هى إذن حكاية درامية غنائية استعراضية، تفتح أبواب الخيال أمام مهندسى الديكور ومديرى التصوير ومصمم الاستعراضات عفيفي، وتتيح لنيللى نفسها أن تشترى ملابس وقبعات خاصة، لتصنع فى النهاية نموذجا للعمل الاستعراضي، الذى تكررت تنويعات كثيرة عليه فى النسخ التالية من الفوازير، حتى بعد أن تركتها نيللي، وحتى بعد أن ابتعد عنها صلاح جاهين.
لم تكن المسألة عند جاهين فى العثور على فكرة، فقد اختبر أفكارا كثيرة فى فوازيره الإذاعية، ولكن المسألة فى بلورة شكل غنائى استعراضى تليفزيونى يعتمد على الصورة والحركة انطلاقا من تلك الفكرة، مع استلهام الموروث الشعبي، وتقديم كل ذلك من خلال الإبهار، ولذلك ظلت هاتان التجربتان حتى اليوم من أنضج وأذكى الفوازير التليفزيونية عبر تاريخها الطويل.
أما تلاعب جاهين بالكلمات، وقدرته على التورية والإيحاء، وذكاء الكتابة، فكل ذلك من قبيل تحصيل الحاصل، فهو حفيد الشاعر الشعبى القديم، وتلميذ بيرم أستاذ الفوازير، والفزورة عند جاهين لا يجب أن تكشف نفسها بسذاجة، ولا يجب أيضا أن تكون لغزا غامضا تماما، وإنما هى لعبة محسوبة ولها مفاتيح، لو عرفتها ستصل إلى الحل.
لا أنسى مثلا فزورة ل صلاح جاهين كان حلّها "النجّار"، فاستلهم صلاح جاهين عالم عرائس أوبريت "الليلة الكبيرة"، وظهرت نيللى كعروسة تتحرك بخيوط من أعلى، وتتحدث عن العريس صاحب المهنة، فتقول عن النجار "ومربّى عنده أنثى فار"، أو لديه "فارة"، وهى الآلة المعروفة فى ورش النجارة.
كان جاهين مؤسسة خيال وإبداع، وكانت الفوازير الإذاعية عموما، والتليفزيونية خصوصا، واحدة من ذرى هذا الإبداع الفريد.

أضف تعليق