الدين كله لله (3)

الدين كله لله (3)د. سعد الدين الهلالي

الرأى26-3-2024 | 22:49

​كثر أدعياء الوصاية على الدّين والولاية عليه بعدد الجماعات والطرق والتيارات المصطنعة باسم الدّين لأهوائها أو لإشباع غرورها ومكاسبها الاستغلالية، فكلُّ زعيم جماعة أو طريقة أو تيّار قد وضع لنفسه وجهًا من وجوه فقه الدّين الذى يرضى قلبه ويسع عقله ويغذّى مقصده ويرفع عنه الحرج، ثم يفرضه على أتباعه ومريديه باسم الصّواب المطلق، وليس مجرّد اختيار فقهى يحتمل الصواب والخطأ، فالمطلق من الحق الغيبي لله سبحانه وحده دون شريك.

ولو أن أحدًا من هؤلاء الأتباع أو المريدين وعى أن الله - عز وجل - قد أعطاه مثل زعيمه الدينى من حق فقه الدّين و الإفتاء لنفسه بالأحظّ لها قلبًا وعقلًا ومقصدًا ورفعًا للحرج؛ لأدرك سعة الإسلام ورحمته به وبغيره، وحمد الله سبحانه وشكره على هذا الفضل الغائب عن قلوب أكثر عباده، كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» (البقرة: 243)، وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» (يونس: 60).

لقد استغل الزعيم الدينى ضعف يقين أتباعه ومريديه فى الله وفى أنفسهم، فأرضاهم بتبعيّته وتقليده لحشدهم فى زمرة حاشيته ومحبيه، ثم يأتى يوم القيامة فيندم، ولات ساعة مندم، ويقول نفسى نفسى، بعد أن يجدها أسيرة الحساب - على الملأ – شأن كل نفس، وقد علم من نفسه أنه قد خان أمانة التعليم لوجوه فقه الدّين المتعددة؛ ليختار كلُّ مكلّف ما يناسبه قلبًا وعقلًا ومقصدًا ورفعًا للحرج، وأنه كان مكلّفًا بإبلاغ الناس ما كان يعلمه فى الدّين من قراءات وفهومات واجتهادات وخواطر، وإن لم يرق بعضها عنده؛ فكتمان فقه الدّين أو بعضه خيانة محل عقاب، كما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبى هريرة، أن النبى صلى الله عليه وسلم، قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله
- عز وجل - بلجام من نار يوم القيامة».

إنه ليس فى فقه دين الله إلّا أمانة تعليمه، كما قال تعالى: «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» (الأعراف: 170)، فالمصلح من الفقهاء بكتاب الله هو من يمكّن غيره من قراءته بنفسه على الأوجه المأثورة، وفهم ما تيسّر له بعقله بعد بيان فهوم السابقين، وإعلامه بواجبه فى اختيار الوجه الذى يرضى الله فى قلبه؛ حتى تصح عبادته له سبحانه، فلا وكالة فى الدّين، ولا نيابة فى الحساب، كما قال سبحانه: «يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (النحل: 111).

ولهذا حصر القرآن الكريم وظيفة رسل الله - سبحانه - فى البلاغ والبيان والتّذكير، ونفى عنهم أن يكونوا أولياء أمور الناس؛ فقال سبحانه: «مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (المائدة: 99)، وقال تعالى: «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (النحل: 44)، وقال جل شأنه: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية: 21-22)، كما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم رسالته التعليمية فيما أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنّتًا، ولكن بعثني معلّمًا ميسّرًا»، وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما بُعثت معلّمًا».

هذا هو الإسلام لله الذى قال عنه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (آل عمران : 19)، وقال أيضًا: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ» (آل عمران: 85)، إسلام يقوم على توجّه المكلّف بكلّيته فى الاختيار البرىء بقلبه السليم، ونفسه المطمئنة لما يعتقده إحسانًا فى الله الحق، وإن خالف فى اختياره الفقهي غيره؛ كما قال تعالى: «بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (البقرة: 112).

ولهذا قطع علي بن حزم ت456هـ بتحريم التقليد، وفصّله فى المسألة رقم (103) من كتابه «المحلى»، والتى جاء فيها: «ولا يحل لأحد أن يقلّد أحدًا، لا حيًا ولا ميّتًا، وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته»، ثم بيّن فضل الاجتهاد فى المسألة رقم (108)، فقال: «والمجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلّد المصيب»، ثم ردّ شبهة التّخويف من مخالفة رأي جمهور الفقهاء فى المسألة رقم (362)، فقال: «فإن قيل هذا رأي الجمهور؟ قلنا: ما أمر الله تعالى قط، ولا رسوله، باتباع الجمهور، لا فى آية، ولا فى خبر صحيح».

إن الأزمة المفتعلة فى خطابنا الديني الإسلامي قائمة على أكذوبة وصف الفتوى بأنها كاشفة عن مراد الله، وليست مجرد فهم الفقيه للنّص الشرعي، فالفقيه يقوم مقام المكلّف فى فهم النّص بما يحقق معنى العبودية لله فى ضوء وضع المكلّف وحاله وزمانه ومكانه، ولا يقوم الفقيه مقام الله تعالى للإفصاح عن مراده من النّص، فهو سبحانه لا تدركه الأبصار، وهو كما قال عيسى عليه السلام: «تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ» (المائدة: 116)، ولهذا ورد فى الحديث الذى أخرجه مسلم عن بريدة، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقول لمن يؤمّره على جيش أو سريّة: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟».

لقد استوعب الصحابة الأخيار، وفقهاء السلف الصالحون، وتابعوهم بإحسان تلك السّعة فى دين الله وفقهه، فما جعلوا اختلاف الدّين وفتاواه سببًا للكراهية أو العداوة، فكل مكلّف وشأنه مع الله بحسب سلامة قلبه وطمأنينة نفسه، كما قال تعالى على لسان إبراهيم الخليل: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » (الشعراء: 87-89)، وقال سبحانه: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِى فِى عِبَادى، وَادْخُلى جَنَّتى» (الفجر: 27-30).

وينفضّ الاختلاف الدّينى أو الفقهى مع الآخر غير المضرور - إذا وقع - بالمبدأ القرآني فى قوله تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ، قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» (سبأ: 24-26)، وقوله تعالى: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» (الكافرون: 6)، مع قوله سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (المائدة:48).

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء (2)

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2