يعتبر المخرج الكبير محمد فاضل من أبرز مخرجي التليفزيون الذين ارتبطت بعض أعمالهم الشهيرة بالعرض في شهر رمضان، بل إنه صاحب أعمال درامية عن تأثير رمضان على سلوكيات الناس، فما زلت أتذكر مسلسلا من إخراجه في السبعينيات بعنوان "رمضان والناس" من بطولة محمود مرسي وليلى طاهر عرض بالطبع في شهر رمضان، وما زلت أتذكر حلقات "صيام صيام" من تأليف الراحل صالح مرسي، وإخراج محمد فاضل، والذي عرض أيضا في رمضان، وكان من بطولة يحيى الفخراني، والممثلة الصاعدة وقتها آثار الحكيم، ومعهما فردوس عبدالحميد وممدوح عبد العليم وليلى علوي والممثل الكبير يوسف وهبي.
أبرز عملين قدمهما محمد فاضل، وعرضا فى الشهر الكريم، وأصبحا اليوم من كلاسيكيات الدراما التليفزيونية ، هما حلقات "أحلام الفتى الطائر"، من تأليف وحيد حامد، وحلقات "أبنائي الأعزاء شكرا"، من تأليف عصام الجنبلاطي، وقد شاهدتُ العملين فى سنوات الصبا فى عرضهما التليفزيوني الأول، وما زلت أتذكر نجاحهما المدوّي، وأعتقد أن الجمهور ما زال يتابعهما بشغف كبير فى إعاداتهما المتكررة على المحطات الفضائية المختلفة، سواء فى مصر، أو فى العالم العربي.
محمد فاضل إسكندراني درس فى كلية الزراعة، أحب التمثيل فى البداية، ولكنه وجد نفسه كمخرج، فى وقت كانت هناك أنشطة مسرحية معتبرة فى الجامعات، وكانت تخرج مسرحيات كلية الزراعة فى الإسكندرية أسماء مثل نور الدمرداش.
من خلال تشجيع هذا المخرج التليفزيوني الكبير جاء فاضل إلى القاهرة، وأصبح مساعدا للدمرداش، ثم قدم فاضل تمثيليات منفردة، وجاء نجاحه الأول الكبير من خلال مسلسل "القاهرة والناس"، الذي استمر لعدة سنوات، والذي قدم من خلاله الوجوه الجديدة: نور الشريف وأشرف عبد الغفور وفاطمة مظهر ونادية رشاد، فى أدوار مميزة وناجحة.
أما رصيد فاضل من المسلسلات الاجتماعية المتميزة فهو كبير ومتنوع، وبعض هذه الأعمال من الكلاسيكيات التي رسخت شهرة وسمعة الدراما التليفزيونية مثل "الراية البيضا" و"ليلة القبض على فاطمة" و"رحلة السيد أبو العلا البشري" و"عصفور النار"، بالإضافة إلى "أحلام الفتى الطائر" و"أبنائي الأعزاء شكرا".
مسلسل "أحلام الفتى الطائر" كان أصلا مسلسلا إذاعيا ناجحا بعنوان "بلد المحبوب"، قام بدور إبراهيم الطاير فيه توفيق الدقن، ولكن المسلسل فى نسخته التليفزيونية (14 حلقة فقط)، يبدو كما لو كان قد كتب لعادل إمام، وبطلنا نموذج لما يسمى بالبطل الضد: أبعد ما يكون عن المثالية، مغامر، متمرد، وسجين سابق، ولكنه ظريف، وحالم، وقام بالنصب على عصابة، وهو طاير بالمعنيين: أحلامه أكبر من واقعه، ولا يستقر فى مكان لأنه مطارد، وتكمل قصته شخصية المؤلف الذي اتهم بالجنون (عمر الحريري)، الاثنان حالمان ومطاردان، وبينما يعاني المؤلف من خيانة زوجته، فإن امرأة لا تنسى اسمها نعيمة ( رجاء حسين) تساند الطاير حتى النهاية، طيران ابراهيم ينتهي بسقوطه، وطيران المؤلف يظل على الورق فى صورة رواية عن بلد لا وجود له.
سيناريو ذهبي يبدأ بتقديم قصة الطاير والعصابة، وقصة المؤلف وزوجته، يلتقيان فى المستشفى ويهربان، يعيشان ثلاث قصص فى أماكن مختلفة، والصراع لا يتوقف طوال الوقت مع العصابة، ومع الشرطة، أهمية القصص الفرعية (كل قصة تستغرق حلقتين تقريبا) فى إلقاء الضوء على شخصية الطاير وزميله، وعلى زمن تتشكل معالمه، يسوده الكذب والخطف والزيف، فى ظروف أخرى كان يمكن أن يعتبر الطاير وزميله من الفرسان، ذروة الصراع عندما يلتقي الطاير بالصدفة وجها لوجه مع زعيم العصابة (جميل راتب)، نعرف أن الطاير لص ونصاب، ولكننا لا نكرهه، لأنه يبدو أكثر اتساقا مع زمن جديد يؤمن بالثراء السريع، موته لا يحل المشكلة، خاصة أنه يربط الحياة بالاحترام، ويربط الاحترام بالفلوس، وهو شعار المرحلة كلها: "كان نفسي أعيش محترم يا أخي".
تعامل المخرج محمد فاضل ببراعة مع نص وحيد حامد، اختياره للممثلين كل فى دوره، وضبطه إيقاع العمل ككل، دون أن تتحول الحكاية إلى مجرد مطاردات خائبة، توظيفه للموسيقى التصويرية (جمال سلامة) كان أيضا ممتازا، كان من الواضح أنه عمل فى ظل الإمكانيات المتاحة، وخرج بأفضل نتيجة ممكنة، كانت المشاهد الخارجية تصور سينما، وكانت الديكورات محدودة ومتقشفة، ولكن الدراما القوية كانت هي العنوان.
أما حلقات "أبنائي الأعزاء شكرا"، فقد عرضت لأول مرة فى العام 1979، وكنا نردد بعد إذاعة المسلسل أغنية التتر "بابا عبده" التي كتبها سيد حجاب، ولحنها عمار الشريعي، بل لقد أصبحت الشخصية التي لعبها باقتدار عبد المنعم مدبولي عنوانا على المسلسل نفسه.
كانت هناك عناصر كثيرة وراء النجاح، أبرزها بالتأكيد جودة النص، واختيار المخرج الموفق لكل الممثلين، ولكنني أنظر الآن إلى هذه الحلقات على نحو أعمق، هي بالتأكيد نموذج للدراما العائلية، أو "يوميات من الحياة العائلية" كما كتبوا على التتر، وفيها تفصيلات حياة الأسرة المصرية، إلا أنها مختلفة فى نظرتها الانتقادية الجريئة لعلاقة الأبناء بأبيهم، يلفت النظر أيضا أن الفكرة يمكن أن تصنع عملا كئيبا ومزعجا، لأن بابا عبده يذكرنا على نحو ما بالملك لير فى صدمته بأولاده، وفي انهياره النفسي والعصبي.
اللافت أيضا أن المسلسل (17 حلقة فقط) يعيد الاعتبار لصورة الأب فى الدراما، بعد أعمال كثيرة، كان الأب فيها موضع سخرية، وأتذكر أنني كتبت مقالا طويلا عن صورة الأب فى أربع مسرحيات من أشهر أعمال السبعينيات وهي "موسيكا فى الحي الشرقي"، و"مدرسة المشاغبين"، و"العيال كبرت"، و"إنها حقا عائلة محترمة"، وكلها أعمال تسخر من السلطة الأبوية، ويشجعها الجمهور بالضحك والتصفيق، ولم أستطع أن أمنع نفسي فى المقال من الربط بين فكرة سقوط الأب، أو على حد تعبير يونس شلبي "أبويا اتحرق"، وبين هزيمة 67 التي هزت صورة الأب والزعيم، وفي مسلسل سبعيناتي آخر ناجح مثل "بنت الأيام" (1977) للمخرج نور الدمرداش، يسقط الأب فى حب امرأة جميلة، وتقوم ابنتاه بالعمل على إعادته للعائلة، لكن بابا عبده يعكس الصورة، أو بمعنى أدق يعيدها إلى أصلها، والسلطة الأبوية بمعناها الغاشم أو المقيد، تصبح هنا سلطة أخلاقية خالصة، إنه لا يلزم أحدا من أبنائه بشيء، ولكن مجرد وجوده، بسلوكه المثالي يؤرقهم، ويشعرهم بالنقص والخجل، لأنه أب نموذجي، وموظف نموذجي، لا يتوقف أبدا عن العمل، ولا يتخلى أبدا عن مسؤولياته تجاه أولاده، حتى لو تزوجوا وأنجبوا، وهو لم يفعل شيئا سوى التمسك بالصواب، فى مجتمع يتحول تدريجيا إلى الخطأ.
بابا عبده فى زمنه صار كما يقول سيد حجاب فى التتر: "ده صنف عزيز شحيح فى السوق"، و"الواحد منه بمية وألف"، المشكلة إذن لم تكن فيه، وإنما فى العالم الذي تغير، لم يقصر فى تربية أولاده، ولكن كل واحد منهم يستجيب وفقا لشخصيته وطباعه، ووفقا لموقفه من التغييرات التي تحدث حوله.
منح المسلسل فرصا ذهبية لكل المشاركين فيه، مدبولي مثلا ارتبط بالشخصية، وقدم تنويعة عليها فى مسلسل تالٍ بعنوان "لا يا ابنتي العزيزة" من إخراج نور الدمرداش، ولا يمكن أن تنسى أدوار يحيى الفخراني وفاروق الفيشاوي وصلاح السعدني وآثار الحكيم التي كانت من أفضل اكتشافات المسلسل، وقدمت فردوس عبد الحميد دورا أقرب إلى ابنة خامسة، وفية، وتمثل ضميرا إضافيا يزعج الأبناء، بينما انطلق محمود الجندي بعد نجاح المسلسل، وأصبح بعد سنوات قليلة من أبرز نجوم الدراما التليفزيونية.
محمد فاضل اسم كبير فى الدراما التليفزيونية، وفي دراما رمضان أيضا.
كل التحية والتقدير يا أستاذ.