رغم اجتهاد النجوم الذين قدموا لنا أدوار "ابن البلد" فى دراما رمضان هذا العام، وعلى رأسهم أحمد السقا وطارق لطفي وأحمد العوضي وحسن الرداد، إلا أنهم لم يخرجوا كثيراً عن الصورة النمطية التي اعتدنا على مشاهدتها فى المسلسلات التي تتعرض للحارة المصرية، وتختار غالباً نماذج سيئة وحالات شاذة ومنبوذة اجتماعياً لتسلط عليها الأضواء، وتقدمها على الشاشة وكأنها ظاهرة عامة، رغم أنها مجرد حالات فردية لا تمثل المجتمع ولا يمكن من خلالها الحكم عليه.
وهنا يطرح السؤال نفسه من جديد، وهو هل من الأفضل أن تجمل الدراما الواقع، كما كان يفعل المخرج الرائد محمد كريم، حينما كان يغسل "البقر والجاموس" بالماء والصابون ويركز فقط على المناظر الجميلة والمشاهد المبهجة فى أفلامه، وخاصة تلك التي قام ببطولتها فنان الشعب يوسف وهبي وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.
أم الأوقع هو تقديم العشوائيات والأحياء الفقيرة كما هي بحلوها ومرها ، وليس وفقاً للرؤية السينمائية القديمة التي كانت تقدم تلك الطبقة الاجتماعية والاقتصادية من منظور "ابن البلد" الشهم الجدع، وسلوكيات أهل الحارة التي يغلب عليها روح التكاتف فى مواجهة الأثرياء، والطامحين من الفقراء للانضمام إلى طبقتهم.
وأقصد تلك الرؤية المتعاطفة مع الفقراء والمنتصرة لهم ولقيمهم ، كما شاهدناها فى الفيلم الخالد "العزيمة" للمخرج كمال سليم ، أو فى أفلام رائد الواقعية صلاح أبوسيف، ومنها "الأسطى حسن" الذي يتنكر فيه البطل "فريد شوقي" لأصله وحارته وناسه، فيقع فريسة لسيدة حي الزمالك "زوزو ماضي" وطبقتها الغنية الفاسدة، لتتغير سلوكياته ونمط حياته ويشاركهم اللهو وتعاطي الخمور ولعب القمار، حتى يتم اتهامه ظلماً بقتلها ولا ينقذه من حبل المشنقة سوى مساندة أهل حارته الطيبيبن واعتراف الزوج المشلول والمطعون فى شرفه وكرامته أمام القاضي بقتله لها.
وهذه الرؤية تختلف تماماً عن الرؤية التي تم تقديمها عن الفقراء وسكان الأحياء الشعبية ، فى أفلام من أطلقوا عليهم وصف مخرجي الواقعية الجديدة، مثل محمد خان فى "أحلام هند وكاميليا"، أو داود عبدالسيد فى "الكيت كات" أو خيري بشارة فى "كابوريا"، مروراً بأفلام التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة مثل "ابراهيم الأبيض" و"الفرح" و"كباريه" و"الشوق" ومعظم أفلام خالد يوسف ، ووصولاً إلى أفلام مثل "الألماني" و"عبده موتة"، وهي رؤية تخلع عن أولاد البلد ثوب الشهامة والجدعنة، وتقدمهم كمجموعة من اللصوص والبلطجية و الحشاشين .
والحقيقة أن الرؤيتين تحملان قدراً كبيراً من المبالغة، وتحرمان المشاهد من رؤية الصورة الحقيقية للحارة المصرية وأهلها، والتطور الذي طرأ عليهم نتيجة الأحداث المتعاقبة التي مروا بها، وحولتهم من طبقة اجتماعية محترمة لها قيمها وتقاليدها وطقوسها إلى عشوائيين يسكنون عشوائيات ، نجحت الدولة مؤخراً فى معالجة مشكلتها عمرانياً ويبقى أن تعالجها ثقافياً وقيمياً.