"كليلة ودمنة" فى أبو ظبى للكتاب 2024

"كليلة ودمنة" فى أبو ظبى للكتاب 2024إيهاب الملاح

الرأى22-4-2024 | 16:28

واحدة من المفاجآت السعيدة التى أعلن عنها معرض أبوظبى للكتاب، فى دورته الثالثة والثلاثين التى ستنعقد خلال الفترة من 29 أبريل الجارى إلى 5 مايو 2024، اختيار كتاب «كليلة ودمنة» كتاب المعرض المحتفى به، بوصفه أحد أبرز الكتب فى التراث الإنسانى التى أثرت فى مسيرة الثقافة والأدب فى التاريخ.

سيحتفى معرض أبوظبى بالكتاب بتخصيص محورٍ كامل (سيشارك فيه كاتب هذه السطور) يتضمن لقاءات وندوات تدور حول كتاب «كليلة ودمنة» الذى أعده درة قصص الحيوان فى التراث الإنسانى كله، والذى ترجم إلى كل لغات العالم من نسخته العربية التى كتبها وحررها عبد الله بن المقفع، وإن كان بناها على نواة مترجمة من الفارسية أو هكذا قيل وشاع وانتشر!

كنت وأنا صغير من المفتونين بقصص «كليلة ودمنة» المصورة، منذ أن وقع فى يدى هذا الكتاب «المصور» الذى يزدهى بالألوان وصور الحيوانات الناطقة بالحكمة والبيان، ويضم بضع حكايات مبسطة من «كليلة ودمنة». ولا أنسى حتى الآن ورقها المصقول ورسوماتها الساحرة، وعالمها الخيالى المثير، ربما ما زلتُ أحتفظ بهذه النسخة النادرة من «حكايات كليلة ودمنة» المبسطة للناشئة والأطفال!
«كليلة ودمنة» هما اسما أختين من بنات آوى إحداهما ساذجة، وتحسن الظن على الدوام فى الجميع، والأخرى حاذقة وماكرة، والمناقشات التى تدور بينهما، والحكايات التى تتناولهما، تتحدث عن محاولاتهما لاكتساب تعاطف الأسد. فيما بعد عرفت أن الكثير من القصص والحكايات الرمزية المتضمنة فى كتاب «كليلة ودمنة» معروفة على نطاق واسع فى العالم العربى بين المتعلمين، وبين من لم ينالوا قسطًا من التعليم أيضًا.

وكانت تلك «البذرة» التى نمت وكبرت وترعرعت لتجعل من صاحب هذه السطور مهمومًا ومشغولًا بالقراءة الدقيقة، والبحث المتصل فى تراثنا السردى الزاخر، وفى القلب منه «الحكاية الشعبية» و«قصص الحيوان» لتصير -بمرور الوقت- انشغالًا فكريًّا وثقافيًّا أصيلًا من انشغالاتى المعرفية والبحثية، وتفصح عن نفسها فى مقالات ودراسات وبحوث نشرت فى مناسبات متفرقة.

ومن حظى أننى شغلت سنوات طويلة بهذا الكتاب الخالد، منذ كنت فى الجامعة وحتى احترافى الكتابة والتأليف فى الدراسات الأدبية والفولكلورية، واهتمامى ب كليلة ودمنة (وعبد الله بن المقفع) متصل لم ينقطع أبدًا، ولا أظنه ينقطع!

لديّ الكثير جدا لأقوله عن هذا الكتاب وصاحبه، وعن أثره فى التراث الإنسانى عامة، والتراث العربى خاصة، وقد أعددت أكثر من دراسة حول هذا الموضوع ليس هنا مقام الحديث المفصل عنها، لكن يعنينى بشكلٍ أساسى فى هذه المساحة التوقف عند بعض الأمور التى تتعلق بالكتاب، وبطبعاته، وأهمها وأشهرها وأجملها وأوثقها طبعة دار المعارف الشهيرة فى 1941 التى اهتممت بها اهتماما خاصا وخصصت فصلًا لها فى كتابى عن «تاريخ دار المعارف» الذى صدرت طبعته الأولى فى ديسمبر 2015.

لكن قبل الحديث عن هذه الطبعة التاريخية النادرة من «كليلة ودمنة» من المهم التعريف بالكتاب، وحضوره البارز فى التراث الإنساني.


كتاب «كليلة ودمنة» فى التراث العربى والعالمى أشهر من أن يعرّف، فهو درة قصص الحيوان «الرمزي» فى التراث الإنسانى كله (إذا كنا نتحدث عن أشهر ثلاثة أعمال قصصية جرَت على ألسن الحيوان والطير والبهائم، فستكون «كليلة ودمنة» أهمها وأشهرها مع «حكايات أيسوب» للحكيم والفيلسوف اليونانى إيسوب، و«حكايات فولتير» فى القرن السابع عشر، وكل ما تلا ذلك فهو متأثر بهذه الأعمال أو فرع منها أو تنويعة عليها).

إنه الكتاب الذى يتناوله الصغار فيستمتعون بحكاياته، والكبار فيستنبطون منه المعانى العديدة والعميقة. وقد اصطبغ الكتاب بصبغات أكثر الحضارات الشرقية ثراءً؛ فهو نتيجة أو ثمرة لتلاقى ثلاث حضارات عريقة؛ هى (الهندية، والفارسية، والعربية)، والرواية الشائعة أن مؤلِّفه هو الحكيم الهندى «بيدبا»، وقد كتبه لينصح به الملك «دبشليم»، ثم انتقل الكتاب إلى الأدب الفارسيِّ عندما قام «برزويه» الطبيب بترجمته إلى اللغة الفهلوية (الفارسية القديمة) وأضاف إليه، وأخيرًا وصل إلى صورته المعروفة فى الأدب العربيِّ حينما قام عبد الله بن المقفع بترجمته مضيفًا إليه بدوره.
ولا شكَّ أن الكتاب يحمل فى طياته أبعادًا سياسية واجتماعية عميقة للغاية؛ جعلته حتى اليوم مادةً للبحث والاستقصاء.

وهكذا تجاوز نص «كليلة ودمنة» -فى رأيي- إشكالية الترجمة والتأليف ليكون نصا ثقافيا إنسانيا؛ نموذجا لقيمة الرمز والإيماء والتخييل وإنطاق الأعجم الصامت بما لا يستطيعه المتحدث اللبق الفصيح؛ يقول ابن المقفع عن كتابه:
«وينبغى لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التى وُضعت له؛ وإلى أى غايةٍ جرى مؤلفه فيه عندما نسبه إلى البهائم وأضافه إلى غير مفصحٍ؛ وغير ذلك من الأوضاع التى جعلها أمثالًا: فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أُريد بتلك المعاني، ولا أى ثمرةً يجتنى منها، ولا أى نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب. وإنه، وإن كان غيته استتمام قراءته إلى آخره، دون معرفة ما يقرأ منه لم يعد عليه شيءٌ يرجع إليه نفعه».

أما الباعث لابن المقفع على ترجمته لهذا الكتاب، ما عهدناه فيه من ميل إلى الإصلاح الاجتماعى شاهدناه فى «الأدب الكبير والصغير»، و«رسالة الصحابة». وكتاب «كليلة ودمنة» يشرح بعض هذه النواحى شرحًا وافيًا؛ فهو يتعرض للنصح بعدم الإصغاء إلى الحاسد والنمام، ويبين أن هناك جزاءً طبيعيًّا؛ فعاقبة الخير خير، وعاقبة الشر شر، وينصح بأخذ الحذر من العدو، والاعتماد على الصداقة... إلخ.

يقول ابن المقفع إنه نقل الكتاب من اللغة الفهلوِية، وقد نُقِل فى أيام كسرى أنوشروان من الهندية إلى الفهلوية، وكان الباحثون فى شك من ذلك حتى عثر الأستاذ هرتل Hertel على بعض الأصول الهندية الأولى كُتِبت باللغة السِّنْسِكْريتِيَّة القديمة، كما عثر غيره على بعض أبواب من الكتاب مفرقة، فعثروا فى كتاب على باب «الأسد والثور»، و«الحمامة المطوقة»، و«البوم والغربان»، و«القرد والغيلم»، و«الناسك وابن عرس»، وعثروا فى كتاب آخر على باب «الجرذ والسِّنَّور»، و«الملك والطائرة فنزة»، و«الأسد وابن آوي»، كما عثروا فى كتاب ثالث على باب «ملك الفيران»، وعثروا أيضًا على باب «إيلاذ وبلاذ وايراخت»، وباب «السائح والصائغ»، و«ابن الملك ورفقائه»؛ فجميع هذه القصص «هندية الأصل»، ولكنهم لم يعثروا إلى الآن، فيما يقول المرحوم أحمد أمين، على كتاب جمعت فيه هذه القصص كلها يسمى (كليلة ودمنة)، أو أى اسم آخر؛ فهل كان هناك كتاب هندى حوى كل هذه القصص، ألفه مؤلف واحد، ونقله الفرس إلى لغتهم؟ أو أن الفرس نقلوا هذه القصص المتفرقة فى الكتب إلى لغتهم، ووحدوها فى كتاب وأسندوها إلى مؤلف واحد؟ هذا مجال خلاف ما يزال بين الباحثين. ويرجحون أن باب «بعثة بروزيه»، وباب ملك الجرذان من زيادات الفرس أنفسهم.

كما يرجحون أن هناك فصولًا برمتها من زيادات ابن المقفع نفسه، وهى باب «غرض الكتاب»، وباب «الفحص عن أمر دمنةِ»، وباب «الناسك والضيف»، وباب «البطة ومالك الحزين».

وفى الأخير، ودون أن أكرر ما تكرر عشرات بل مئات المرات فى شأن التعريف بـ«كليلة ودمنة» وأصلها الذى قيل إنها مأخوذة عنه، فإننى أميل بقوة إلى الرأى الذى يرى أن فعلَ ابن المقفع فى «كليلة ودمنة» يتجاوز عملية الترجمة والنقل إلى الصياغة التأليفية الخاصة التى تحيل الأصل المترجم (سواء كان فارسيا مترجما عن نص هندى أو هندى خالص) إلى نصٍ عربى جديد أنشئ إنشاء؛ وأبدع إبداعا على غير مثال ولا نموذج، وإن كانت نواته أو بذرته عربية أو غير عربية، لا يهم.

ونأتى الآن إلى الحديث عن الطبعة الممتازة الفاخرة التى أهدتها (دار المعارف) إلى قرائها فى مصر والعالم العربى كله، وهى الطبعة التى أصدرتها عام 1941 ضمن احتفالها بمرور خمسين سنة على تأسيسها (تأسست فى 1890) وقد توفر لهذه الطبعة ما لم يتوفر لطبعة قبلها، فقد عكف على إخراجها وتحقيقها والمقارنة بين نسخ مخطوطاتها عميد الدراسات الشرقية فى وقته، الدكتور عبد الوهاب عزام، يشاركه التقديم بين يدى هذه الطبعة الدكتور طه حسين، الذى كتب يقول:
«هذه طُرفة قيمة تهديها (مطبعة المعارف ومكتبتها بمصر) إلى قراء العربية، فتمتع بها عقلهم وذوقهم وشعورهم وحسهم معا. وتقديمها إليهم، فى هذه الأيام المظلمة المؤلمة التى قلما يظفر الناس فيها بهذا المتاع الممتاز الخالص الذى ينعمون به فى أيام السلم، فضلٌ يضاف إلى فضل وإحسان يضاف إلى إحسان».

وقد راق الدكتور طه حسين فى هذه الطبعة الجديدة من كتاب «كليلة ودمنة» رموزًا سامية صادقة لمعان سامية نحبها أشد الحب ونطمح إليها أشد الطموح. ففى هذا الكتاب «حكمة الهند، وجهد الفرس، ولغة العرب. وهو من هذه الناحية رمز صادق دقيق لمعنى سام جليل، هو هذه الوحدة العقلية الشرقية التى تنشأ عن التعاون والتضامن وتظاهر الأجيال والقرون بين أمم الشرق على اختلافها، والتى حققتها الحضارة الإسلامية على أحسن وجه وأكمله أيام كانت هذه الحضارة حية قوية مؤثرة فى حياة الأمم والشعوب والتى نريد الآن أن نرد إليها قوتها الأولى وجمالها القديم. هذه الحكمة الخالدة الساذجة التى أفاضها روح الهند، ونقلها عنهم جهد الفرس، وصاغها فى هذه الصورة العربية الرائعة ذوق العرب، وتوارثتها الأجيال بعد ذلك فنقلتها من بيئة إلى بيئة ومن شعب إلى شعب حتى جعلتها جزءًا من التراث الإنسانى الخالد، هذه الحكمة فى صورتها العربية رمز لما نحب أن يكون من تعاون الأمم الشرقية على إشاعة البر والتقوى وإذاعة الخير والمعروف ومقاومة الإثم والعدوان».

هكذا لخص الدكتور طه حسين القيمة الإنسانية الكبرى للكتاب، باعتباره أثرا من آثار الإنسانية الخالدة تجمعت فيه عبر العصور خلاصات الحكمة والتهذيب والنقل والتعريب، إلى أن استقرت فى صورتها العربية المكتملة التى قدر لها أن تكون هى الأصل الذى تنتقل منه بعد ذلك من بيئة إلى بيئة ومن شعب إلى شعب ومن أمة إلى أمة حتى جعلتها «جزءا من التراث الإنسانى الخالد».

ثم يضيف إلى ما سبق من مزايا طبعة دار المعارف مزية أخرى تتلخص فى أنها تقدم رمزا آخر صادقا دقيقا لمعنى آخر سام جليل، نحبه أشد الحب ونطمح إليه أشد الطموح، وهو هذا التعاون المنتج بين قديمنا العربى القيم، ونشاطنا العصرى الخصب. هذا الجهد الذى أنفقه ابن المقفع فى نقل «كليلة ودمنة» إلى العربية، وهذه الجهود التى أنفقها المسلمون بعده فى درس الكتاب وتصحيحه وتنقيحه، والاستفادة منه والانتفاع به، لم تذهب سدى بل لم تنقطع، ولم تقف عند حد محتوم، ولكنها اتصلت بين الأجيال يضيف إليها كل جيل ما قصّرت عنه الأجيال الأخرى حتى وصلت إلينا فلم نعرض عنها ولم نزهد فيها ولم نأخذها كما هى فى قناعة وكسل وفتور، وإنما أقبلنا عليها مشغوفين بها راغبين فيها وأخذنا نضيف إليها ما عندنا كما أضاف إليها الذين سبقونا ما كان عندهم.

ويقارن الدكتور طه بين فضل طبعة دار المعارف فى تمامها وكمالها وبين الطبعات السابقة عليها دون أن يبخس حقها لكنه يشير إلى أن الجهد القيم الذى بذله الأب شيخو حتى أخرج للناس أقدم نسخة ظفر بها، هذا الجهد لم يقف عند الحد الذى وصل إليه الأب شيخو، ولكن زميلى الدكتور عبد الوهاب عزام يضيف إليه جهدًا جديدا قيما فينشر نسخة جديدة أقدم من نسخة الأب شيخو بأكثر من قرن من الزمان، ويمكن التاريخ الأدبى والنقد الأدبى من أن يعيدا نظرهما فى هذا النص القديم، ويستخلصا منه نتائج جديدة لها قيمتها وخطرها، ومن المحقق أن هذا الجهد الذى بذله الدكتور عبد الوهاب عزام لن يقف عند هذا الحد ولن ينتهى إلى هذه الغاية.

فقد كان يريد، وكانت مطبعة دار المعارف ومكتبتها تريد معه، جمع أكثر عدد ممكن من النسخ المخطوطة لهذا الكتاب ومعارضتها والموازنة بينها واستخراج أصح نص ممكن من هذه المعارضة والموازنة، فحالة الحرب بينهما وبين ما كان يريدان ولكنها لم تمنعهما من يقدما إلى الناس أقدم نص لهذا الكتاب عرف إلى الآن.

أما بيان هذه الطبعة وما اشتملت عليه من لوحات وصور وضبط للنص وشروح له وبيان معانى المفردات الغريبة والصعبة كل ذلك سيكون فى موضعه فى الأعداد القادمة بإذن الله.

أضف تعليق