أوراق متساقطة .. خلطة كوريسماكي الساحرة

أوراق متساقطة .. خلطة كوريسماكي الساحرةمحمود عبد الشكور

الرأى16-6-2024 | 11:55

لا يتوقف المخرج الفنلندي الكبير آكي كوريسماكي عن إدهاشنا بأفلامه الساحرة، وبتلك الخلطة العجيبة، التي لا يستطيعها سواه، بالمزج بين عناصر جادة، وأخري ساخرة، أقرب الي عالم الأحلام، بين الواقع بخشونته، وعالم أقرب إلي أفلام الأربعينيات الرومانسية والميلودرامية، مع استخدام فذ للأغنيات والموسيقي، وبراعة في التقاط المشاعر والأحاسيس الإنسانية، لشخصيات مهمشة بسيطة للغاية، تنتمي إلي الطبقة العاملة، يختار أن يجعلها أبطالاً، ويضعها في قلب الصور والحكايات.

سر كوريسماكي في تلك التوليفة السلسة الممتنعة، وفي نجاحه في اختيار ما يحتاجه بالضبط لسرد قصة عادية، لكن بطريقة غير عادية.

أول ما يرد إلي ذهنك وأنت تشاهد أفلامه، وتمتلئ بتلك الطاقة الإنسانية، وبروح المحبة والبهجة والتفاؤل، أن الأمر سهل التقليد، وأنه يمكن أن يصنع الآخرون أفلامًا علي هذا المنوال، لكن تحليل الفيلم يثبت أن كوريسماكي يقدم مزيجًا معقدًا للغاية، وأن هذه البساطة ظاهرية، بينما يكمن في الأعماق قراءة مهمة للبشر وللظروف، واستلهام ذكي لتراث الأفلام، ورؤية عارفة وملهمة للموسيقي وللغناء، إنها البساطة القادمة من امتلاك الأدوات، والتمكن من الحرفة، والمعرفة بجوهر الأشياء والموضوعات، وحذف كل ما ليس له لزوم.

فيلم كوريسماكي "أوراق متساقطة"، الذي عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان 2023، وفاز في نفس الدورة بجائزة لجنة التحكيم الخاصة، نموذجي تمامًا لشرح عالم وطريقة وأسلوب هذا المخرج المتفرد، فالحكاية هي البساطة الكاملة، بل لعلها تكرار لحكايات الحب بين اثنين من الشخصيات المهمشة من الطبقة العاملة، وبحبكة متناهية البساطة، لكن طريقة المعالجة، وتفاصيلها، وبناء الفيلم، والمزيج العجيب الذي يلتحم في سبيكة واحدة، هو الذي يجعل من الفيلم، الذي لا تزيد مدة عرضه بالمناسبة علي 81 دقيقة، عملاً مميزًا، لا يمكن أن يحكي عنه فقط، لكن يجب أن يُشاهد، وهو شأن كل الأعمال العظيمة، التي لا يكون فيها الفيلم هو ملخص الحدوتة، لكنه كل عناصر الفيلم، وجميع مشاهده.

الطرف الأول في العلاقة الفتاة إنسا ، التي تعيش وحيدة، تعمل في سوبر ماركت، لكنها تُفصل بعد أن حصلت علي منتج منتهي الصلاحية، واحتفظت به في شنطتها، فتلتحق بالعمل في حانة، تغسل الصحون والأكواب، لكن الشرطة تقبض علي صاحب الحانة، بتهمة الاتجار في المخدرات، فتلتحق إنسا بالعمل في مصنع، لكن الأهم من عملها هو أنها منعزلة تماما في شقتها، وتشعر بالغضب مما تسمعه في الراديو من قتل للمدنيين في أوكرانيا في حربها مع روسيا .

الطرف الثاني هو العامل لاهوبا، لن نعرف أبدًا اسمه الأول، سنعرف فقط أنه يتعاطي الخمر حتي أثناء العمل، يعمل في مجال لحام المعادن، لديه صديق وحيد يهوي الغناء، ويحلم هذا الصديق بأن تكتشفه شركات الإسطوانات!

عندما يفصل لاهوبا من عمله الأول بسبب تعاطي الخمر، ينتقل إلي العمل في مجال البناء، يعاني لاهوبا من الاكتئاب، لا يبدو متحمسًا لشيء، ولا يبدو متفوقًا في شيء، حياته محصورة بين العمل والحانات، ويستمع أيضًا بأسي لأخبار الدمار وقتل المدنيين في الحرب الأوكرانية الروسية .

لقاء الصدفة في حانة بين إنسا ولاهوبا، يتطور إلي عزومة علي فيلم سينمائي، يختاره لاهوبا من نوعية أفلام الزومبي (!!) تكتب له إنسا عنوانها، لكن العنوان يضيع من لاهوبا، إنه حتي لا يعرف اسمها، فيقرر أن يأتي ليقف أمام السينما، فربما تعود إلي المكان، يتحقق ذلك فعلا، يراها مرة أمام السينما، تعزمه علي بيتها، يتناولان الطعام، تكتشف إدمانه للخمر، ترفض ذلك لأن والدها مات بسبب الإدمان، يرفض هو أن يتلقي منها الأوامر، ويغادر منزلها غاضبًا.

يكتشف لاهوبا أنه يحب إنسا، فيقرر أن يبتعد عن الخمر، يتصل بها ويبلغها الخبر، تدعوه من جديد، يصدمه قطار، ويقع في غيبوية، تؤنسه بالحكايات أثناء فترة غيابه، يستفيق أخيرًا، تنتظره أمام المستشفي مع كلبة صغيرة تبنّتها، يسير الثلاثة معا: إلسا والكلبة ولاهوبا الذي يسير بجوارهما مستخدما العكاز، ينتهي الفيلم البديع.

هذه خطوط الحكاية العادية جدًا، والساذجة ربما، لكن التفاصيل والأجواء وأداء الأبطال المنضبط والسخرية الذكية والأغنيات الرومانسية العذبة، كل ذلك ينقلنا إلي أجواء غريبة ومدهشة، بل إنك لو تأملت بعد مشاهدة الفيلم، لوجدت كوريسماكي قد مزج ببراعة بين عالمين متنافرين تمامًا: أحدهما واقعي تماما، يرثي لظروف هؤلاء العمال، الذين يمكن فصلهم في لمح البصر، والذين يعملون في ظروف صعبة، وباستخدام معدات بالية، ويرتي الفيلم أيضا لأحوال وظروف هذا العالم، الذي يدفع فيه المدنيون ثمن الحروب، مثل الحرب بين أوكرانيا و روسيا .

علي الجانب الآخر، فإن هذه الواقعية الجادة والمؤلمة تقابلها رومانتيكية قادمة مباشرة من الأفلام، خصوصا من سينما الأربعينيات، حيث المشاعر والأحاسيس المتدفقة، وحيث أغنيات الراديو والأسطوانات، وحيث المفارقات الميلودرامية الغريبة، بل إن كوريسماكي يستخدم نفس تكنيك هذه الأفلام، فلا نري مثلاً حادثة القطار، لكننا نسمع صوت التصادم، ويسخر كوريسماكي بوضوح من أفلام معاصرة تتحدث عن الزومبي، يراها أفلاما كوميدية، بينما ينحاز الي سينما المشاعر والأحاسيس، فيحاكيها بذكاء وتمكن.

يبدو لي أن معادلة كوريسماكي تحقق علي النحو التالي: هذا الواقع القاسي لا يمكن الصمود أمامه إلا بحكايات رومانسية موازية أقرب إلي حكايات أفلام الأربعينيات، ولا يمكن لهذه الشخصيات المهمشة أن تحقق ذاتها إلا بالحب، ولا شيء يواجه قبح أخبار الحروب إلا تلك الأغنيات البديعة الرومانسية.

تبدو الشخصيات نفسها مغتربة عن واقعها، وكأنها شخصيات من زمن آخر، أو كأنهم أبطال فيلم قديم ألقي بهم في عصرنا البائس، وهاهم يعودون إلي فيلمهم القديم.

حكاية إنسا ولاهوبا أقرب إلي حلم أو فاصل أو هدنة من العالم القبيح، وهي أيضًا دليل علي أن هذه الشخصيات البسيطة، تمتلك قلوبًا من ذهب، ولديها أحلام جميلة تريد أن تحققها، وتمتلك أيضًا إرادة للحياة.

أما الأسلوب فهو البساطة المتناهية المناسبة تماما للموضوع وللحكاية وللشخصيات، الكاميرا ثابتة في معظم المشاهد، والاعتماد علي التعبير بالوجه، وبالإضاءة والألوان، وبالموسيقي والأغاني، لا توجد حركة تشغلك عن محتويات الصورة الثرية، ولا توجد ثرثرة من أي نوع، لا في السرد ولا في الحوار، بل إننا أمام كلمات حوار قليلة ومركزة، وكأن كوريسماكي يستقطر أهم ما في المشهد، وأهم ما في الحياة، ويعتمد علي التفاصيل الضرورية وحدها، يختار بالضبط متي يؤثر بالموسيقي؟! ومتي يجعلك تتأمل وتفكر؟!

إننا أمام أسلوب متفرد يجمع بين عناصر كلاسيكية وتقليدية جدا، بنفس الدرجة الذي يمكن أن تصفه أيضًا بالحداثة، وربما بعالم ما بعد الحداثة أيضًا، فيه من الكلاسيكية بساطة السرد والحبكة، والبناء التقليدي من خلال البداية والوسط والنهاية والعقدة والحل، وفيه من عناصر الحداثة وما بعد الحداثة، تلك الروح الانتقادية الساخرة، وتقديم التحية للأفلام القديمة، فيه أيضا تلك البصمة الخاصة، والتي صارت عنوانا علي أفلام هذا المخرج بالذات، بحيث تعرف الفيلم من مشاهده، وطريقة سرده، حتي لو لم يكتب علي التترات اسم كوريسماكي .

لعل كوريسماكي يري في السينما وأفلامها عالمًا أكثر حقيقة من عالم اليوم، لأنها تعرفنا ببساطة علي جوهر الإنسان المفقود، ولأنها تعبر بسلاسة عن ذلك، ولا ننسي أن لقاء العودة بين البطلين كان أمام دار السينما، بينما لم يمنحنا عالم اليوم، سوي كائنات وحيدة منعزلة، تهرب بالخمر، وتعيش مكتئبة وبائسة، يهددها القلق وغياب المستقبل، وفقدان الوظائف، والحياة الكريمة.

يحدث ذلك في فنلندا، التي تعتبرها التقارير الدولية أفضل مكان يمكن أن يعيش فيه البشر، بسبب برامج التنمية والرعاية الصحية، فما بالنا بدول وأماكن أخري، تعيش مأساة الحرب والموت والدمار والهجرة؟!

سينما كوريسماكي هي قصيدة حب للمشاعر وللروح الإنسانية البسيطة والنبيلة، وهي أيضًا قصيدة حب للسينما، بوصفها مستودعا لكل هذه المشاعر العظيمة.

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2