أحترم كثيرا المخرج شريف عرفة، وأقدّر بصمته المهمة فى مسيرة الفيلم المصري، بل ويمكن أن نعتبره صاحب قفزات كبيرة فى مجال الأنواع المختلفة من الأفلام، كما أن تأثيره ممتد من خلال تلاميذه، الذين يعملون أيضا فى مجال الأنواع، يطورونها، ويضيفون إليها، ومن ألمع هؤلاء وأهمهم مروان حامد.
ربما يستحق شريف دراسة خاصة، ولكنى سأعطى أمثلة فقط للطفرات التى حققها فى مجال أنواع الفيلم المختلفة، فالإضافة الأهم فى مجال الفيلم الميوزيكال بمعناه الحقيقي، يمكن أن تجدها فى تجاربه المهمة مع ماهر عواد فى أفلام مثل «يا مهلبية يا»، و«سمع هُس»، والقفزة الأهم فى تاريخ أفلام الأكشن تحققت بفيلم «مافيا»، الذى أخذ النوع الى آفاق واسعة، بعد أن كنا قد توقفنا عند أكشن نادية الجندى وعادل إمام، وأنضج أفلام الدراما الإجتماعية السياسية ستجد نماذج لها فى سلسلة أفلام شريف عرفة ووحيد حامد وعادل إمام، مثل «اللعب مع الكبار» و«طيور الظلام»، والعودة القوية للدراما الصعيدية فى السينما، والتى حققت نجاحا جماهيريا ونقديا، ستجدها فى فيلم «الجزيرة» بجزءيه، والقفزة الكبيرة فى الفيلم الحربى ستجد وراءها أيضا شريف بفيلمه «الممر»، ولديه تجربة فيلم سيرة مختلف جدا هو «حليم»، وله أيضا أعمال ناجحة فى مجال الكوميديا، بل إنه الذى قدّم نجوما مثل محمد سعد، وأحمد حلمى، والراحل علاء ولى الدين فى أفلام وأدوار ناجحة، والمدهش أن شريف أيضا صاحب تجربة فيلم «الكنز» الفريدة بجزءيه، وهو فيلم يصعب تصنيفه، وأراه عملا مهما وجريئا على كل المستويات، والجدير بالذكر أنه رغم تعدد الأنواع والتجارب، إلا أن هناك سمات أسلوبية مشتركة تعبر عن تكنيك عال، وإيقاع متدفق شديد الحيوية، وحركة كاميرا ذكية، وصورة ثرية بمكوناتها، دون تجاهل إدارة الممثلين، الذين يفوزون معه بجوائز معتبرة.
أعرف أن شريف ليس مجرد منفذ للسيناريوهات، وأنه كان يتدخل باقتراحاته ورأيه، ويضيف ويحذف، ولكن تجاربه المباشرة فى كتابة أفلامه لم تكن على مستوى إخراجه، قلت وكتبت ذلك رغم نجاح تلك الأفلام، فليس صعبا أن تلاحظ ثغرات ومشكلات كثيرة فى كتابة أفلام أخيرة مثل «الجريمة» و«الإنس والنمس» و«الممر»، رغم الإبهار البصرى، ورغم العين الثرية التى ترى الصور والأماكن، والتى لم تتغير أو تتشوش، ولكن الدراما ليست مجرد صور وأماكن، ولكنها حرفة وموهبة وخبرة إنسانية، ورؤية عميقة للإنسان وللحياة.
طالت هذه المقدمة لكى أصل منها الى فيلم «اللعب مع العيال»، الذى كتبه وأخرجه شريف عرفة، وأسند بطولته لمحمد عادل إمام، لأننى أعتقد أن هذه المستوى الذى ظهر عليه الفيلم، هو ذروة تلك المشكلات الكبيرة فى تجربة شريف ككاتب، وهو دليل آخر على أن الجهد التقنى الكبير والمميز لشريف، والذى لا يتراجع أبدا، لا يمكنه أن ينقذ الفيلم، بدون كتابة على نفس المستوى.
مشكلتى مع «اللعب مع العيال» متعددة الأوجه، إننى لا أستطيع أن أتقبله مثلا كعمل كوميدي، لأنه ثقيل الظل، رغم اعتماده على بعض المفارقات، كما أنه عمل فيه كثير من المباشرة، رغم أهمية قضية التعليم التى يناقشها، وهو أيضا عمل مضطرب يقف على الحدود بين الواقع والخيال، فلا يشبع أيهما، وفيه كثير من السطحية فى المعالجة، والصنعة والتكلف، إلى درجة أنه لا يصمد للمقارنة مع أفضل أعمال شريف عن نفس القضية وهو فيلم «الناظر» الشهير، والذى ينتهى أيضا بالهتاف لجمهورية مصر العربية.
بدا لى وكأن «اللعب مع العيال» صدى لبقايا أفكار من أفلام شريف، أو لغيره، فحكاية سيناء وأهلها، بل والمرأة السيناوية حاضرة كخط أساسى فى فيلم «الممر»، وفكرة محو التاريخ وتغييبه هى محور فيلم هام لعمرو سلامة هو «برا المنهج»، وللمفارقة فإن بطل الفيلم هو ماجد الكدوانى الذى يسرد بالصوت فى بعض مشاهد «اللعب مع العيال»، والتاريخ ككنز وكذاكرة هو أيضا محور ملحمة فيلم «الكنز» الذى كتبه عبد الرحيم كمال.
ولكن كل هذه الأفكار امتزجت معا، فى صورة مصطنعة فى «اللعب مع العيال»، ومن خلال حبكة ركيكة، وعبر مشاهد يفترض أن تضحكنا فلا تفعل ذلك، وتخيل مثلا أن يهرب علام المدرس الشاب (محمد إمام) من بيته، بعد أن زوجه والده قهرا من فتاة بدينة (ويزو)، لكى يلتحق بعمله الجديد كمدرس فى شرم الشيخ، وتخيل أنه سيعمل فى مدرسة أقرب إلى الأكشاك الخشبية، وبعد أن ينجو من الثعابين، ومن الذئب، ويفلت من عقاب زعيم مهربى المخدرات (باسم سمرة)، يقع كما هو متوقع فى غرام بنت شيخ القبيلة (أسماء جلال)، وينجح فى تعليم أطفال أقرب إلى البلاهة، ثم يتحدى زعيم العصابة فى معركة هزلية، ويتخلص من زوجته البدينة، التى وصلت الى شرم الشيخ، فتنتصر السذاجة، ويهتف الجميع تحية للعلم المصري!!
بدأ الفيلم بمشهد سقوط علام أثناء هربه على شجرة، فينجو من الموت بأعجوبة، فاعتقدت أنه مشهد فانتازى يمثل قانون الفيلم كله، ولكننى فوجئت بأن المعالجة كوميديا خفيفة، لمناقشة قضية اجتماعية "واقعية" هى التعليم، وعلاقتنا بأهل سيناء وحب الطبيعة إلخ، وفجأة ظهر الذئب، الذى بدا كما لو كان خطا فانتازيا جديدا، حيث ستنشأ صداقة بينه وبين علاّم، بل سينقذه فى النهاية، ويغمز له بعينيه!
ما هذا بالضبط؟ لعله على الأرجح مشروع كوميكس مشوش، وكيف يمكن أن تصنع دراما لامعة فى بيئة صحراوية محدودة العلاقات والشخصيات؟ وكيف تخيل شريف عرفة بخبرته الواسعة أنه يمكن أن يضحك من خلال أسماء الأطفال الغريبة، أو من خلال وجود فتاة بدوية اسمها كمامة أو عبر مجرم اسمه الأصلى عمرو؟
كيف انمحت الخطوط عند شريف بين الكوميديا كفن وبين السخرية من الشخصيات ومن البيئة؟ وكيف ظهرت اللهجة بهذه الطريقة الممسوخة؟ وكيف يمكن أن يكون شيخ القبيلة، مركز الثقل فى الفيلم، والذى لعبه بيومى فؤاد، بمثل هذه التفاهة مع أنه الرجل المستنير الذى يؤمن بالتعليم وبتدريس التاريخ؟
وكيف تُبنى الدراما كلها على حكاية الزوجة البدينة، والتى لم تفلح فى إنقاذ الصراع بمطاردة علام؟
حتى مشاهد تعليم التاريخ عبر خيال الظل بدت مباشرة وساذجة للغاية، ولا تقارن حتى بمشاهد تتقاطع معها فى فيلم «برا المنهج».
فوضى حقيقية تتخفى وراء أفكار كبيرة وهامة، ومعالجة تخلو من الجاذبية والطرافة، التى طالما ميزت أعمال شريف، وعبثا يحاول هنا أن يسترد اهتمام الجمهور، الذى يغفل ويستيقظ على صحراء قاحلة، وعلى ديكور لكشك خشبى بائس، وعلى صوت يمثل المدرس القديم الأول، الذى يقدم نصائحه لهذا الأسير الجديد.
لا مقارنة على الإطلاق بفيلم «الناظر» بتفاصيله وشخصياته ومواقفه الظريفة وإيفيهاته المحفورة فى الذهن، ولا معنى أبدا للحديث عن التعليم وأهميته، بأن تعذب المدرس، وتهدده فى حياته، وتسخر من شخصيته، وتفترض أن كل ذلك يقدم كوميديا وضحكات، هذه خفة وذلك استخفاف يكشفان عن ضعف فى حرفة الكتابة، ولا يمكن أن ينقذ كل ذلك الفيلم رغم وجود عناصر فنية متميزة كالمعتاد، وحتى توظيف موسيقى مودى الإمام على مدار الفيلم كله،على طريقة أفلام توم وجيري، لم يعد اختيارا موفقا ومناسبا، أو بمعنى أدق صار أمرا متكررا وتقليديا تماما.
أما بالنسبة للتمثيل، فلا نكاد نعثر على تميز أو أداء مختلف من ممثل، محمد عادل إمام مثلا تائه تماما، وإيفيهاته طائشة، ومعظم الممثلين يبالغون ويقدمون صورا كاريكاتورية سمجة لشخصياتهم، الوحيدة التى بدت بسيطة وذات حضور مكتسح هى أسماء جلال، ودور كمامة من أفضل أدوارها عموما.
ما زلت أرى أن شريف عرفه يمكنه أن يقدم الكثير، ولكنه يحتاج الى مراجعة حكاية كتابته لأفلامه، نعم للمخرج دور فى قبول السيناريو، ورأى فى كتابته، وفى المعالجة البصرية كلها، ولكن كل ذلك يختلف تماما عن كتابة دراما من الألف إلى الياء، وخصوصا إذا كانت تجارب المخرج السابقة فى الكتابة حافلة بالمشكلات.
هكذا يعلمنا التاريخ يا أستاذ شريف.
التاريخ الذى يشغلك، وتدافع عن تعليمه، سواء فى فيلمى «الكنز»، أو فى الفيلم الذى لعبت فيه مع العيال.