من سؤال «الهوية» إلى استكشاف «الشخصية المصرية»

من سؤال «الهوية» إلى استكشاف «الشخصية المصرية»إيهاب الملاح

الرأى8-7-2024 | 08:39

فى رحلة البحث المتجددة الدؤوبة عن تاريخ الثقافة المصرية الحديثة، بدا لى أن الجذر الكامن فى أزمات الوعى والهوية والبحث عن مشروع ثقافى «قومي» يعود إلى ما هو أبعد من الخمسين سنة الماضية؛ إنه يعود إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير!

فلا أفكار «النهضة» و«التمدين» و«التحديث» كانت بعيدة وغائبة عن أذهان الطليعة المثقفة المصرية فى نهايات القرن الثامن عشر ومطالع القرن العشرين! وقد أنفق عشرات من المثقفين والمفكرين المهمين فى مصر والعالم العربى أعمارهم فى بحث وتحليل أشكال النهضة والتنوير والتحديث طوال المائتى عام الماضية (طه حسين، والعقاد وهيكل وأحمد أمين، وأمين الخولي، وزكى نجيب محمود، وحسن حنفي، ونصر أبو زيد، وعلى مبروك من مصر، ومحمد عابد الجابرى وعبد الله العروى من المغرب، ومحمد أركون من الجزائر، ورضوان السيد من لبنان، وأدونيس وطيب تيزينى من سوريا، وجابر الأنصارى من البحرين... إلخ)

إيهاب الملاح

أثبتنا بما لا يدع مجالا للشك فيما كتبناه سابقًا أن أفكارا ومفاهيم من قبيل «الوطن» و«المواطنة» و«الدستور» و«الأمة» و«الهوية الوطنية» و«الشخصية القومية» و«تسلسل الحضارة» و«الانتماء الإنساني».. إلخ تلك الأفكار والمفاهيم، التى لا نزال نحارب ونكافح؛ لترسيخها فى الوجدان المصرى المعاصر، كانت واضحة وراسخة ومبينة فى فكر رائد نهضوى كبير مثل رفاعة الطهطاوى فى القرن التاسع عشر!

ومن رفاعة الطهطاوي، وتلاميذه، وصولًا إلى جمال الدين الأفغاني، والإمام المصلح المجدد محمد عبده، والطبقة المثقفة التى نشأت فى ظل أفكاره وخرجت من عباءته كنا قطعنا شوطا مذهلا فى إنتاج الأفكار الحديثة ومواءمتها مع تراثنا الإسلامى دون أى مشكلة!

وعاشت مصر فعلا حقبة عظيمة من التنوير والسعى الدؤوب للخلاص من أزماتنا التاريخية المزمنة ومواجهة تحدياتنا الكبرى التى بزغ وعى واعد مستنير فى مواجهتها؛ وشهدت مصر خلال الفترة من الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين حركة ثقافية كبرى تشكل فيها وخلالها ما عرف بـ القوة الناعمة المصرية، التى نباهى بها الآن ونتباكى عليها فى الوقت ذاته!

ومن محطة محمد عبده التأسيسية نستطيع القول بأن ثمة تيارين كبيرين قد بدآ فى التشكل والتبلور وسيحدد الصراع بينهما مسارات الفكر والنهضة والنكوص عنهما فى المائة عام التالية لهذه النقطة.

يفرق بعض النقاد والمفكرين بين عقليتين: عقلية الاتِّباع وعقلية الابتِداع. وهذا تقابل بين مَن كانوا يُسمّون فى التراث: القُدامى والمُحدثون أو المُتشبثون بالماضي، ومن يقابلهم من الباحثين عن الإمكانات الخلاقة فى الحاضر أو المستقبل.

ولذلك، يقول جابر عصفور فى كتابه المهم «نقد ثقافة التخلف»، إن الاتِّباع قرين النقل والتسليم بما هو قائم، والأخذ عن القدماء فى كل ما يرونه، حتى لو تغيرت الأحوال والأزمنة. وفى مقابل هؤلاء، هناك أصحاب العقلية الابتِداعيَّة، الذين لا يركنون إلى الماضى ولا يعتمدون عليه كل الاعتماد، بل يأخذون منه أفضل ما فيه، ناظرين إلى إمكانات التقدم فى عصرهم، فضلًا عن الإمكانات الواعدة فى المستقبل.

بعبارةٍ أخرى، العقل الاتِّباعِى يقيسُ كل ما يأتى على ما مَضَى ويفرض ما مضى على ما يأتي، وعلى النقيضِ من ذلك العقل الابتِداعِى «الخلاق أو المبتكر» الذى يبدأ من خبرات الماضى مركِّزًا كل التركيز على إمكانات الحاضر، مُنطلقًا منه إلى وعود المستقبل إنجازاته، التى يسعى وراءها العقل المُتجدد دون توقف، وينقل جابر عصفور عن المرحوم أحمد أمين تشبيهه الدال لعقل الاتِّباع بأنه كالإنسان، الذى يمضى إلى الأمام وعينيه فى قفاه.

وهكذا تحددت الأزمة المستحيلة للأسف فى لحظة تاريخية انحرف فيها مسار أحد تلاميذ الإمام العظيم محمد عبده؛ ليضيق بالفكر بعد أن كان اتسع، وأصبح قابلا للتمدد أكثر وأكثر، وصار محمد رشيد رضا (وهو سورى متمصر عاش فى مصر وأنشأ مجلة المنار وظل ملازمًا للإمام محمد عبده حتى وفاته وسجل سيرته فى عمل ضخم يقع فى ثلاثة مجلدات بعنوان «سيرة الأستاذ الإمام») هو رائد وإمام السلفية والأصولية المعاصرة التى سيتخرج فيها مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، ويكون عام 1928 تاريخ تأسيس الجماعة الإرهابية علامة فارقة فى تاريخ مصر؛ لا نزال نجاهد ونكافح؛ لنتخلص من هذا السرطان اللعين، وآثاره التخريبية المدمرة حتى اللحظة!

إذا عدنا إلى الوراء عند ما أسماه جابر عصفور بدايات «الخطاب الثقافى الجديد»، نسبيًا، فى أحوال المثقفين الذين جاؤوا به، بوضوح كامل أو مجزوء، سنجد حال المصرى النجيب رفاعة الطهطاوي، الذى أرسله محمد على مرشدًا دينيًا لبعثة دراسية، مزودًا بوعى دينى تقليدى يقول بأولوية الحقيقة الدينية على الوقائع الدنيوية، وبتراتب البشر وفقًا لعقائدهم الدينية.

فى فرنسا، تعرّف الطهطاوى على «عصر الأنوار الفرنسي»، وترجم بعضًا من وجوهه، وعلمته تجربته الفرنسية مبدأ المقارنة، إذ لا يمكن تقويم ثقافة إلا بمقارنة مع ثقافة أخرى، متفوقة عليها.

قارن الطهطاوى بين أحوال مصر وأحوال باريس، وترك عقله يعقل الفرق وأسبابه، وهجس بخطاب ثقافى جديد، وضع عناصره فى كتاب وثيقة عنوانه: «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز».

ومع أن الطهطاوي، الذى غادر مصر إلى فرنسا عام 1826، كان مسلما مؤمنًا بإسلامه، فإن المقارنة الحضارية التى أنجزها عقل وطنى نقدي، استولدت أفكارًا جديدة تمثلت فى: تكامل الوطنية والانتماء الديني، تأمل الفرق بين لغة فرنسية واضحة سهلة ولغة عربية «صعبة» وبحاجة إلى إصلاح، تقويم البشر انطلاقًا من ممارساتهم لا من معتقدهم الديني، ما جعل الفرنسيين أكثر كرمًا فى منظوره من الأتراك، وجعل من المرأة الفرنسية الحاسرة الشعر السافرة الوجه أكثر فاعلية ونشاطًا من المرأة المصرية «المحجّبة»، وقدرة المسلم على التعلم من غيره، ما جعل من الطهطاوى رائدًا فى الترجمة وتسهيل اللغة العربية وممارسة الصحافة والاعتراف بحق الشعب باختيار السلطة المعبّرة عنه.

قاوم الطهطاوى لغة عربية متكلّسة وقاوم معها، لزومًا، عقلًا متوارثًا يميل إلى السكون، أعاد اكتشاف اللغة العربية من حيث هى هوية وأداة للكتابة فى آن، وأعاد اكتشاف معنى الوطن، من حيث هو جغرافيا وتاريخ وثقافة، عليه أن يستفيد من حضارة غيره لا أن يذوب فى الأزمنة المنقضية.

ثم تلاه الشيخ الإمام محمد عبده فى كتابه القيم «الإسلام بين العلم والمدنية»، فرفض بدوره لغة خشنة مراوحة، وقاوم مبدأ «التكفير» المتعسّف مقاومة ضارية، واقترب من الفكر التطوري، مؤمنا بأن ما يظل على حاله يموت ويندثر، وقد التمس فى تونس «فتوى» تجيز تعليم العلوم الاجتماعية والرياضيات.. أعلن عبده والطهطاوى عن نزوعيهما الحداثي، ولو بقدر، وأسّسا لخطابٍ ثقافى أكثر وضوحًا جاء به طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلي».

لقد قارن الطهطاوى بين حضارتين، وألمح إلى قضايا جديدة، وقارن الشيخ عبده بين المؤمن الحقيقى وممارسات دينية شكلية، والتحق به عقل نقدى تجلى فى طه حسين. قارن الأخير بين «القدماء» و«الجدد»، ودعا إلى جديد خالص مرجعه «الشك الديكارتي»، الذى يتحرر من اليقين ويبحث عن الحقيقة، ويضيق بسلطة الجماعة ويدافع عن حرية الفرد، ينصاع إلى قوانين العلم ويدع ما ليس له علاقة بها خارجًا.

يستطيع متأمل خطاب مثقف معاصر مثل جابر عصفور، عليه رحمة الله، أن يلحق أفكاره بأفكار سابقيه من «التنويريين الكبار». فالفكر المدافع عن حرية الإنسان وحاجاته المعنوية لا زمن له، سواء أجاء فى حقبة استعمارية أم فى فترة لاحقة دعيت اصطلاحًا حقبة الدولة الوطنية. فالاعتراف بالآخر، أو «الأخروية» بلغة ملتوية، واضح الموقع عند الطهطاوى وعند عصفور، وكذا التثاقف والاعتراف المتبادل بين الثقافات المختلفة، رغم خصوصية هنا واختلاف هناك، وكذلك المسئولية الوطنية ودور الفكر فى بناء الوطن أو تقييده إلى الوراء.

لقد ساءل جابر -فيما أسماه أو عبر عنه فيصل دراج- «خطابه القومي» المشدود إلى كارثة عربية سبقتها «كوارث» بقدر رفضه، «للتكفير»، الذى اجتهد فيه الشيخ محمد عبده اجتهادًا لا مزيد عليه، وأكّدَ «التسامح» قيمة أخلاقية وثقافية.

وكان طه حسين فى تصوره الحداثى الشامل قد أقام الإبداع على «الأنا الحرة» أو الذات المتحررة، التى تقترح ولا تحاكى إلا بما يتفق مع الاقتراح الذى جاءت به. ولعل تكامل «الذوات المبدعة الحرّة»، هو الذى وضع على لسان جابر عصفور تعبير «التنوع الخلاق للثقافة العربية»، الذى يعنى أن الهوية الثقافية «تُخلق» ولا توّرث، فما يُخلق فيه إبداع وزمن وما يورّث يلغى الزمن، وتمتد فيه أبعاد فرضت عليه.

ولذلك يبدو الكلام المتكاثر عن «الهوية الثقافية العربية» خاوى المعنى إن لم يتحدد بعناصر واضحة المنطلق والغاية، ذلك أن كل هوية من أخرى تقاومها وتحاول السيطرة عليها، وأن ارتقاء الهوية يقاس بتعددية عناصرها.

والحديث عن الهوية الآن لا ينفصل جذريا عن «الشخصية المصرية»، وضرورة إعادة بنائها وتكوينها بما يؤهلها لمواجهة تحدياتها وتجاوز أزماتها واستشراف مستقبلها، هذا أول تصريح صدر عن وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو فى التشكيل الوزارى الجديد. إذن موضوع بناء الشخصية المصرية أصبح الآن على رأس أولويات الدولة المصرية. ولا يمكن الحديث عن الشخصية المصرية وفروضها الثقافية ومحدداتها الاجتماعية من دون التعرض لموضوع «الهوية».

أغلب الباحثين والمعنيين بالدراسات الثقافية والعلوم الاجتماعية يفرقون بين «شخصية مصر» و«شخصية المصريين»، فى هذا الصدد يقول أستاذ علم الاجتماع القدير الدكتور أحمد زايد «أعتقد أن الدكتور جمال حمدان عندما تكلم فى كتابه كان يتكلم عن «شخصية مصر»، وسؤال الهوية لا يطرح بيننا فقط إنما هو سؤال مطروح على كل الموائد فى كل الدول.

تجمع دراسات التاريخ المصرى أن عظمة الحضارة المصرية قامت على «البساطة»، وامتازت الشخصية المصرية بعدم انفصال الفن المصرى عن الدين. إن مصر هى هبة النيل طبيعيا، وهبة المصريين «حضاريا»، وقد اكتسبت شخصيتها الخاصة من اعتدالها فى الموقع، وتميزها فى الموضع. وتظل مصر «فى النهاية وأساسًا هى مصر، وتظل بوصلتها هى المصرية، فمصر أرضا وشعبا وحضارة وسكانا، ورغم كل الخيوط والخطوط المشتركة، التى تربطها بأبعادها القارية...، تظل فى النهاية مصرية؛ تأصيلا وتطويرا وانتماء».

ودراسة «الشخصية المصرية» هى فى واقعها وجوهرها دراسة فى الذات المصرية أو النفس المصرية، فى الروح المصرى والمزاج المصري، وهذا ما يدخل أو يعود بنا على الفور إلى مجالات علم النفس الاجتماعي، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، والأخلاقيات الجماعية Collective ethology ونظرية الأمزجة والبيئات، وقضية الطوابع القومية National character والشخصية القومية.. إلخ».

وقد رأى جمال حمدان أن الشخصية المصرية تتميز بالتدين، والمحافظة، والاعتدال، والواقعية، و»السلبية»، ورأى أن الشخصية المصرية قد انتقلت انتقالات أربع، هي:

1- اكتشاف الزراعة وبدء الحضارة.

2- الإسلام والتعريب.

3- تحول التجارة إلى رأس الرجاء الصالح.

4- الحضارة الغربية الحديثة.

كذلك فقد رأى أن كل انتقالة من هذه الانتقالات كانت انقلابا كاملا، وانقطاعا ثوريا مثيرا ومؤثرا. ثم يختم جمال حمدان تصوره عن الشخصية المصرية بقوله:

«بهذا أيضًا لا يتبقى لنا من العلامات الأعلام بين المتغيرات الجذرية فى تاريخنا سوى انقلاب الإسلام والتعريب الذى كان أخطر انقطاع فى تاريخ مصر، حيث انتقلت به من الفرعونية إلى العروبة»، فى النواحى الحضارية، أما فى النواحى المادية، فيما يتعلق بالزراعة «فهى فرعونية إلى مجيء الحضارة الغربية الحديثة».

إن ملكة الامتصاص التى عدّها جمال حمدان من خصائص الشخصية المصرية هى التى جعلت مصر مقبرة للغزاة على المستوى المعنوى الذى جعل ثقافة المصريين تهضم ثقافة الغزاة، وتؤثر فيها خلافا لنظرية «ابن خلدون»، الذى قرر أن المهزوم يقلد المنتصر.

والأدب المصرى -فى عصوره الإسلامية- تأكيد لخصوصية الشخصية المصرية فى إطارها العربى الإسلامى حضارة واستنارة.

أضف تعليق

حكايات الأبطال

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2