تقدم المخرجة ماجى مرجان فى فيلمها التسجيلى المتميز " رسائل الشيخ دراز " نموذجا مدهشا لشيخ أزهرى عظيم، من زمن قديم، حصل على الدكتوراه من السوربون، وظلت مؤلفاته الهامة من أبرز آثار جيله.
ولكن فيلمنا ليس عن الماضى فقط، كما قد يتبادر إلى الذهن، وليس فقط محاولة من أحفاد الرجل وأبنائه لتكريم اسمه، ولتعريف أجيال جديدة به، ولكنه أيضا فيلم معاصر، يطرح بالضرورة أسئلة صعبة ومؤلمة، بهذه المقارنة الضمنية بين نموذج متسامح ومستنير لرجل الدين، وبين ما نراه اليوم من التشدد والتعصب، وبالتالى فإن عنوان الفيلم، الذى يستعرض رسائل محمد عبد الله دراز فى سنوات بعثته فى فرنسا، يتضمن أيضا رسائل أخرى، عما تمثله رحلة هذا العالم الجليل من علاقة بالآخر، مقارنة بزمننا الذى يشيطن هذا الآخر، وبأيام يسود فيها التعصب والتطرف والجهل.
أحببت كثيرا هذه الرؤية الذكية، التى أهدتنا أحد أفضل أفلام العام فكرة ومادة وبناء وتأثيرا عقليا وعاطفيا، وأسعدنى هذا التعاون الجديد بين المخرجة ماجى مرجان ، وتغريد العصفورى كمستشارة فنية للفيلم، بعد فيلمهما البديع " من وإلى مير "، وأعتقد أن هذا الثنائى سيضيف الكثير إلى رصيدنا من الأفلام التسجيلية الهامة، كما أسعدنى أن نهى الخولي، حفيدة الشيخ محمد عبد الله دراز، ممثلة للأبناء والأحفاد، كانت وراء هذا الفيلم إنتاجا وظهورا فى مشاهده.
أعتقد كذلك أن الأهم من الفكرة هو تطويرها، فلم تتوقف الحكاية عند توثيق مسيرة الشيخ العظيم، والذى مازالت كتبه تزين المكتبات، وأبرزها بالتأكيد رسالته للدكتوراه، التى ترجمت إلى العربية، وطبعت تحت عنوان "دستور الأخلاق فى القرآن"، ولكن الحكاية امتدت إلى أفكار د. دراز، وانفتاحه على الثقافات، بعد أن أصبح أحد أفراد بعثة الملك فؤاد لخريجى الأزهر فى العام 1936، ورأينا زاوية جديدة لعلاقاته الإنسانية مع أولاده العشرة (خمسة أولاد وخمس بنات)، ومع زوجته العظيمة السيدة حُسنة، كما أن الفيلم قام بتعميق فكرته بقراءة أحوال أسرة مصرية مسلمة من الطبقة الوسطى فى تفاعلها مع العالم، وتعمقت الفكرة أيضا بالاستعانة بآراء باحثين ومفكرين فى الدراسات الإسلامية، لتوضيح أفكار د. دراز المتسامحة، ونظرته الهامة للقرآن كدستور أخلاقي، وليس فقط ككتاب للأوامر والنواهي، وكمنهج للحياة وللتعامل المتسامح مع الآديان الأخرى، وكأداة لمخاطبة العقل والضمير، وليس فقط ككتاب للعقوبات والمحرّمات.
بناء الفيلم أيضا من عناصر تميزه، بل لعل البناء هو أهم عناصر الفيلم التسجيلى عموما، هنا ننتقل بسلاسة من فكرة إلى أخرى، وعبر مونتاج ممتاز، وتوظيف جيد لموسيقى خالد الكمّار، ونبدأ مباشرة من فكرة البعثات المصرية فى القرن العشرين، والتى استفاد منها أكثر من ألفى مبعوث، وعلى رأسهم بالطبع الشيخ دراز، الذى اختير لبعثة فرنسا، بعد تفوقه وتخرجه فى الأزهر، ثم ننتقل إلى الحفيدة نهى، وهى تستعرض رسائل جدها، ونعرف أن أحد أبنائه قام بتبويب تلك الرسائل، كما احتفظت الأسرة بأجندات كثيرة صغيرة كتبها الشيخ دراز بخطه البديع، طوال حياته، حتى وفاته فى العام 1958، وتدريجيا يكتشف المشاهد أهمية الرجل، عندما تزور نهى شارعا يحمل اسم جدها، ثم تبدأ الحكاية عبر اثنين من الأبناء هما محسن وسامي، بالإضافة إلى ما تقوله بعض الحفيدات، وننتقل بذكاء من التفاصيل الأسرية والعائلية، إلى مجال الدراسة، وسلوك الرجل وحياته، وتسامحه وانفتاحه الإنساني، ثم عودته بعد حصوله على الدكتوراة فى العام 1948، ونعرف بعض المعلومات عن أحاديثه الإذاعية، ورفضه لمنصب شيخ الأزهر ثلاث مرات، ووفاته بعد أن ترك مؤلفات هامة ومعتبرة، تحدث عنها بعض الدارسين والمشايخ، منهم الشيخ أسامة الأزهري، والكاتب إبراهيم عيسى.
وبين الخاص والعام، وبين التفاصيل الإنسانية الحميمة، والأفكار التى آمن بها د. دراز، تتشكل ملامح البورتريه تدريجيا، نسمع أجزاء من الخطابات بأصوات ممثلين، ثم نسمع صوت د. دراز شخصيا بعد ذلك، قويا ومهيبا فى أحاديثه الإذاعية النادرة.
نبدأ من الأصل والجذور، فقد ولد محمد عبد الله دراز لأب أزهرى أيضا، الأب من قرية محلة دياى فى كفر الشيخ، وكان الأب أيضا أستاذا لطه حسين فى الأزهر، وأشاد به طه فى كتابه الأشهر "الأيام"، ونشاهد الأحفاد، وبعضهم جاء من الخارج، وهم يزورون قرية جدهم الأكبر، ومن الجذور تعبر الرسائل عن أشواق د. دراز إلى زوجته وأولاده، وتعبر عن ظرفه وخفة ظله، وقد نجح فى أن يجعل أسرته الكبيرة تسافر إليه، وأقام الجميع فى باريس، وهناك عاشوا سنوات الحرب العالمية الثانية الصعبة، وانقسمت الأسرة بين باريس وقرية فرنسية كانت تتعرض دوما للقصف، ولكن الشيخ لم يتوقف عن الدرس والتحصيل، حتى أنجز رسالة الدكتوراة.
تذهب الكاميرا مع محسن وسامى إلى شقة باريس، يتذكران البيانو الذى أحضره والدهما ليعلم أولاده الموسيقى، ويتذكران أن والدهما كان حريصا على تعليم بناته الموسيقى أيضا، وأنه قدّم لإحدى بناته لدراسة الحقوق، ونزور معهما جامعة السوربون ، حيث يتذكر الابنان أن والدهما كان يذهب إلى الجامعة بالبدلة الإفرنجية، ولكنه كان يذهب إلى جامع باريس الكبير للصلاة بالزى الأزهرى
مؤلفات د. دراز تركز بشكل خاص على الجانب الأخلاقى، وعلى تربية الضمير، كما أنه تخصص فى مجال المقارنة بين الأديان، ونقرأ من أحد كتبه فكرة محورية وهى أنه لو شاء الله لوحّد الأديان، ولأجبر الناس على عبادة دين واحد، وبالتالى فإن هذا التعدد وتلك الاختلافات هى سنة الله فى الكون، وكل دين يأتى مصدقا للدين السابق عليه، وبمثل هذه النظرة الشاملة لفلسفة الأديان، انطلق د. دراز إلى جوانب التعامل مع الآخر، ولم يفصل أبدا بين عقيدة الإنسان وسلوكه، فالدين هو السلوك والمعاملة، ومن أحاديث زوجة ابنه محسن عن حميها، نرى شخصية سمحة ودودة للغاية، لا يرتدى ثوب الواعظ، ولكن خلقه وسلوكه يقدمان صورة للمسلم الحق كما وصفه القرآن، متدين للغاية، ولكن دون انغلاق أو تشدد، له ابتسامة شديدة العذوبة، يضحك مع أبنائه وأحفاده حتى تدمع عيناه، وأقصى تعبير عن الضيق والغضب هو أن يغمض عينيه، له هيبة ومكانة وحضور، لا يفعل إلا ما يؤمن به، لم يتردد فى أن يرفض منصب شيخ الأزهر ثلاث مرات بعد العام 1952، لأنه لن يكون حرا أو مستقلا فى قراراته، كما أنه توقف عن أحاديثه الإذاعية، بسبب رفضه حذف بعض السطور التى كتبها فى بعض تلك الأحاديث.
لا يتحدث الفيلم الذكى عن متشددى وجهلاء هذا الزمان، ولكنك لن تستطيع إلا أن تقارن فى ذهنك بينهم وبين سماحة واستنارة وعلم د. دراز، ولعلك ستسأل نفسك لماذا لم يعد يجود علينا هذا الزمان بأمثاله؟ وأين هى البعثات الأزهرية التى كانت توسع من آفاق المتعلمين والدارسين؟ ولماذا صار الانغلاق بديلا عن الإنفتاح؟
من أسئلة الفيلم الضمنية أيضا تأمل أحوال الطبقة الوسطى المتعلمة التى تمثلها عائلة د. دراز، أين هذه الطبقة التى كانت "رمانة الميزان" فى المجتمع؟ أين ذهبت قيم التعلم والانفتاح على الآخر؟
هنا تتضاعف أهمية الفيلم، بالانتقال من رسائل الورق إلى رسائل العقل، وهنا أيضا تتبلور أفكار مهمة تقول إنه لا تناقض أبدا بين التدين والتسامح، ولا تناقض بين التدين والانفتاح على العصر والعالم، وتؤكد أن الدين يتضح فى السلوك كما يتضح فى النصوص، والمسلم الحقيقى ليس فى عداء مع العالم ولا مع الإنسان، فالدين فكرة إنسانية، وليس مجرد عقيدة وكتاب يتحدث فقط عن الحلال والحرام.
رسائل الشيخ دراز معاصرة تماما، وجاءت فى وقتها، كان يعرف أن الله أكبر بكثير مما يصف المتشددون، وكان مؤمنا بعقيدته، يدافع عنها، دون أن يسىء للآخرين، كان واثقا من نفسه، وفى عقيدته، لا يشعر بالنقص ، وكان يدافع عن العقل والضمير قبل أى شيء، كان يركز على الجوهر، ويعرف كيف يدعو إلى دينه بالحكمة والحجة ، ولم يكن فظا غليظ القلب.
يختتم الفيلم أحداثه بتعريفنا ببعض أفراد أسرة د. دراز من الأبناء والأحفاد، بعضهم يعملون بالترجمة، وفى مجال الكمبيوتر، وحفيدة تعمل محامية فى الخارج، كلهم متعلمون حافظوا على الرسائل الورقية والمعنوية، عرفوا الدرس، واستوعبوا قيمة الجد العظيم، فصارت الحكاية العائلية عنوانا على زمن ووطن وطبقة، وممارسة متسامحة للتدين، نتمنى ونحلم بأن تعود.
تقول إحدى الحفيدات إن أمها، ابنة الشيخ دراز، علمتها أن الله يحبها، بل إنه يحب هذه الحفيدة أكثر من أمها، وعلى أساس هذا الحب تكون العلاقة مع الله. ليتنا نعرض هذا الفيلم فى الفضائيات، لأنه أفضل من مائة حصة تعليمية، وأكثر بلاغة من مائة خطبة أو شعار، وليتنا نوفر مكانا وطريقة لحفظ آثار د. عبد الله دراز، وكبار علمائنا، حتى لا تبلى الأوراق والخطابات، وتندثر الكتابات، التى تشهد على زمنها، وعلى عظمة أصحابها.