لم تعد الثقافة الجماهيرية من الكماليات.. خاصة في الدول النامية التي تتطلع إلي التقدم حيث يكون دورها أكبر.. فقط من تقدمها وكيف نستفيد من تجارب الدول الأخري؟!
وفي لقاء مع فاروق حسني ، مدير المركز الثقافي ب باريس سابقا، بعد أن عاد إلي القاهرة منذ أسبوعين فقط ويعمل مديرًا لمديرية الثقافة بالقاهرة يقول: عدت من فرنسا بعد أن أصبح المركز الثقافي المصري هناك علامة من علامات باريس وقد عملت هناك لمدة سبع سنوات كان المركز قبلة المصريين والعرب والأجانب وكان ترتيبه الأول من بين 18 مركزًا لمدة ثلاث سنوات متتالية رغم إمكانياتنا المتواضعة، وقد عرض علي العمل بمراكز ثقافية أخري لكني فضلت أن أعود لمصر لأشارك بخبرتي في التغيير الكبير الذي يحدث في بلاده في هذه المرحلة.
وبعد عودتي لمصر لاحظت انتشار القصور والبيوت الثقافية بحيث تغطي محافظات الجمهورية، لكن لا يوجد تركيز ورأيي أن العمل الثقافي مع الجماهير يحتاج إلي دفعة كبيرة والتنسيق مع الوزارات والهيئات الأخري التي تعمل في نفس الميدان.. وللعلم ليست المشكلة في الأموال المعتمدة، فالعمل الثقافي يحتاج إلي رواد مؤمنين وهواة لهذا العمل قبل كل شيء.. وبأقل الإمكانيات.
وقد وضعت خطتي بعد أن أصبحت مسئولاً عن الثقافة الجماهيرية بالقاهرة أن أجعل قصر ثقافة النيل نقطة انطلاق وقبلة للكبار والفنانين الموسيقيين والكُتّاب وقد أتفقت مع معظمهم ليكونوا عنصر جذب للشباب والتحامهم بالجماهير مباشرة بدل أن تغلق القصور أبوابها علي موظفيها ليصبح القصر دارًا للضيافة فقط وقصرًا للمناقشات الخاصة وبعض الجهود المتواضعة.. فهناك بلا شك فراغ ثقافي كبير.
وتقع مسئولية هذا التقصير أولاً علي الأوعية المسئولة عن الاتصال بالجماهير وفي اعتقادي أن قصور الثقافة تمثل أهم هذه القنوات، فلا شك أن القصر في حاجة لأن يعطي والشباب وبقية الفئات في حاجة أيضا أن تأخذ المشكلة فقط في تحديد المسار بينهما.
وفي تصوري أن القصر يجب أن يهيئ نفسه لأهم اللقاءات الفكرية ولأهم الأعمال المسرحية هذا علي مستوي القاهرة والإسكندرية، أما بالنسبة للقري فلسنا في حاجة إلي إنشاء بيوت ذات مبانٍ وأشكال يخشي دخولها البسطاء من الفلاحين وهم المستهدف الحقيقي من التغيير في النجوع والكفور والقري ويجب ألا يقتصر دور هذه البيوت علي العروض السينمائية فقط حين تقوم بهذه المهمة هيئات وجهات أخري، بل يجب أن نعمل علي الاهتمام بالأدباء الشبان والفنانين الشبان وأن نفتح لهم القصور علي أبوابها لعرض إنتاجهم ليشاهده نقادنا ويجب أن نتابعهم في كل موقع بشيء من الحرية، فالعمل الثقافي لم يعد عملاً كماليًا فقط في حاجة إلي جهود شباب يهوي هذا العمل في كل شيء وأن يكون لديه الاستعداد للالتحام بالجماهير وتوصيل المفاهيم بأسلوب مدروس يسبقهم أحيانًا لكن لا يجب أن يسرع الخطي حتي لا تتخلف عنه الجماهير في منتصف الطريق.
الرأي الآخر
وعن رأي المسئولين عن الثقافة الجماهيرية وكيف يفكرون قال وكيل وزارة الثقافة عبد الفتاح شفشق: نعم الثقافة الجماهيرية شيء ضروري وحيوي في سبيل بناء الإنسان المصري، كما جاء في بيان رئيس الوزراء في 12/1977 أمام مجلس الشعب، وقد أعدت الحكومة خطتها علي أسس ومبادئ أهمها صيانة التراث القومي ونشر الثقافة بين جماهير الشعب لتصبح حقا للمواطن كالتعليم تمامًا وطالبت الحكومة بتطوير الثقافة بالدراسات والبحوث حتي لا تقف عند حد المتوارث أو القائم بالفعل ويقتضي الأمر إلي التقدم بمشروعات قوانين خاصة بصيانة التراث، والتنمية الثقافية كما تستهدف خطة الحكومة الوصول بـ الثقافة الجماهيرية إلي أعماق الريف والمناطق النائية كل هذا عظيم.. لكن أمام هذه الخطة وظروفنا الحالية التي تمر بها البلاد.. ماذا يمكننا أن نفعل أكثر مما تؤديه الآن إذا عرفنا أن ميزانية الثقافة الجماهيرية 350 ألف جنيه.. المفروض أنها تصرف علي 33 قصرًا و150 بيت ثقافة و22 مكتبة و35 قافلة و60 سينما وأكثر من 18 ناديا للطفل، وبالرغم من ذلك استطعنا أن ننشئ مواقع جديدة ومزمع إنشاء 36 مركزًا آخر علي أعلي مستوي في محافظات الجمهورية لتشمل مراكز للأطفال ومسارح.
وقد اشتركت المراكز الثقافية في مهرجان قرطاج الفني بتونس وقدمت أوبريت «عاشق المداحين» بمناسبة ذكري الفنان الشعبي «زكريا الحجاوي».
عيون الآخرين:
وبعد أن تجاوزت تجربة الثقافة الجماهيرية أكثر من عشرين عاما يهمنا أن نقيم التجربة بأنفسنا والأهم أن نسمع رأي الآخرين عنها.
ومن هؤلاء الشاب الهولندي بارتوس هندريكس.. وهو يعمل مدرسا بجامعة أمستردام ويزور مصر حاليا للقيام ببحث شامل عن صور وبيوت الثقافة المصرية، ويقول بارتوس: لقد بدأت فكرة البحث في ذهني عام 1977 عندما قرأت مقالاً بجريدة «الليموند» عن تجربة مصرية بأحد قصور الثقافة واستخدم المسرح في نشر الوعي بين الفلاحين ومناقشة القضايا الاجتماعية من خلاله وبأسلوب الفلاح نفسه.
وعن تجربة هولندا في هذا المجال يقول: لا توجد في هولندا قصور ثقافة مطلقا، إنما الخدمة الثقافية تقدم بأسلوب لا مركزي، المكتبة فعلاً مستقلة والموسيقي لها دور خاص وكذلك المسرح والسينما بعكس ما هو موجود في مصر حيث يقوم قصر الثقافة بكل هذه الفنون وهو ما دفعني لدراسة هذه التجربة.
وفي رأيه أن الدول النامية تحتاج إلي مثل هذه القصور والبيوت الثقافية والمشكلة ليست فقط في الإمكانيات المالية لكن في طريقة تفكير الناس ولابد أن يشتركوا جميعا في عمليات التعمير التي تحدث في مصر، فليس من المعقول أن يركز الرئيس أنور السادات علي سلوكيات جديدة في المجتمع - وقد سمعت خطابه يوم 23 يوليو - ثم لا يجد من يعاونه في تركيز هذه المفاهيم وهنا يأتي دور بيوت الثقافة في نقل هذه المفاهيم عن طريق الفنون المختلفة وقد أعجبني كثيرًا رغم قلة الإمكانيات أن المسئولين عن قصور الثقافة في كل محافظة يعملون في ظروف صعبة ورغم ذلك أري عملا مستمرا، خاصة في مراكز ثقافة الطفل.
وإلي هنا أعتقد.. أن الشباب أمامه ميدان كبير يتمثل في قصور الثقافة حيث يمكنه من خلالها أن يساهم في خدمة بلده.. والقصور مفتوحة ليقضي علي ما بها من قصور أيضا في أنشطتها وفيها أيضا يكشف قدراته.. ويختفي وقت الفراغ من حياته.
نشر بمجلة أكتوبر في أغسطس 1978م – 1398هـ