يقدّم هذا الفيلم التسجيلي الناضج ، عنوانه " جولة ميم المملة "، للمخرجة الواعدة هند بكر ، متعة مزدوجة لمشاهديه، فمن لا يعرف شيئا عن بطل الفيلم، القاص الكبير الراحل محمد حافظ رجب، سيشعر بالتأكيد بالفضول والتعاطف تجاه حكايته الغريبة، عندما لمع كالشهاب في الحياة الأدبية المصرية في بداية الستينيات ، وتفرد بتقديم ألوان من القصص القصيرة المختلفة، وبعد فترة عاشها في القاهرة، غادرها إلى موطنه في الإسكندرية ، وأمضى سنوات طويلة قبل وفاته، معتكفا في بيته، لا يقرأ ولا يكتب، ويكتفي بتأمل الحياة من شرفة منزله.
ستحب الرجل من الفيلم، حتى لو لم تكن تعرف عنه أى معلومة، أما لو كنت من عارفى قدره وبصمته المهمة فى تاريخ القصة المصرية والعربية، فستكتشف الكثير عن حضوره وذكائه ورؤيته وفلسفته، سواء فى اختيار التمرد بالكتابة أو فى اختيار الابتعاد والعزلة، سيكون ذلك من خلال بناء بصرى وسمعى متماسك، وحلول فنية كثيرة مبتكرة، ودراسة جيدة لتاريخ الرجل وحياته، حوار مستمر بين مخرجة الفيلم، التى نسمع صوتها فقط، بين محمد حافظ رجب فى عزلته الأخيرة.
قيمة الفيلم، الذى أنتجه شباب من سينمائيى الإسكندرية بأموالهم القليلة، ليست فقط فى التوثيق للرجل، الذى عاش معظم حياته على الهامش، ولكن أيضا وبالأساس فى جعل عزلته تطرح أسئلة مهمة، سواء عن علاقة الكاتب بعالمه أو عن علاقته مع زمنه وظروفه أو عن حريته فى اختيار الكتابة أو التوقف عنها.
قصص محمد حافظ رجب، التى تجمع بين السيريالية والعبثية، لفتت نظر المخرجة هند مثلما لفت نظرها اختياره الابتعاد، ومن هذين العنصرين طرحت سؤالا محوريا هو: لماذا يختار كاتب مهم وموهوب عدم الاستمرار؟، ثم طورت السؤال بعد ذلك لينفتح على حال الأديب عموما والعوامل التى تدفعه للإحباط والخذلان، ويظهر فى الجزء الأخير من الفيلم أديب سكندرى شاب هو أحمد عبد الجبار، يجادل رجب فى موقفه، وينقل مخاوفه كشاب من مصير كمصير كاتبه المفضل محمد حافظ رجب، لو واصل عبد الجبار شغفه العارم بفن الكتابة.
هى إذن رحلة عامة وخاصة، واختيار اسم الفيلم نقلا عن اسم قصة قصيرة لرجب، يجعل أدب الرجل وحياته وجهين لعملة واحدة، فأبطال رجب منهزمون يتعرضون لأحداث خارقة وغير عادية، ويعافرون بأشلائهم وبقاياهم، ورجب كما شاهدناه لم يكن مغيبا كما حاولوا أن يشيعوا عنه، بل هو شخصية يقظة وذكية وماكرة، تعرف متى تتكلم؟ ومتى تصمت؟، واتجاهه للعبادة والتصوف صادق وحقيقي، لا يبتسم ولا يضحك، إلا لو جاءت سيرة طريفة من الماضي، لديه اعتداد كبير بأدبه، ويعرف قيمة ما أضافه إلى فن القصة المصرية والعربية.
ولكنه لا يزال يشعر بمرارة عميقة، بسبب وضعه الطبقى القديم، حيث كان بائعا للفول السودانى أمام سينما استراند، ولكنه ثقّف نفسه، وبنى عالمه الفريد، إلا أن نظرة مجتمع المثقفين فى القاهرة لوضعه الاجتماعى لم تتغير، كما أنه استفز كبار الأدباء بعبارته الشهيرة، عندما قال فى برنامج تليفزيوني: «نحن جيل بلا أساتذة».
نجحت هند بكر فى التغلب على مشكلة المكان الواحد والشخصية الواحدة، وذلك بالاستعانة بلقطات للإسكندرية، ولسينما استراند، ولأفلامها التى كان رجب يشاهدها باستمرار، ولأخبار أرشيفية، ثم قامت بعرض مشاهد من الأفلام والبرامج على بروجكتور داخل منزله، وشاهدنا شخصيتين مع رجب داخل البيت، الأولى هى ابنته سامية التى تخدمه، التى لم يرض عن اتجاهها لكتابة الشعر، والثانى هو تلميذه وصديقه الأديب الشاب أحمد عبد الجبار.
قوة الفيلم تتضح كذلك فى استخدام مفردات لغة السينما ببراعة، مثل أحجام اللقطات، والتكوينات المعبرة، وعلاقة الشخصية بمكانها، وبالنور والظلام، فاللقطات الغالية هى اللقطات المقربة، التى جعلتنا نرى الشخصية بتعبيرات وجهها وعينيها المدهشة والمؤثرة، فمن لحظة فرحة، تنطفئ العينان فجأة، وتمر بهما سحابة من حزن عميق، ومن انعكاس النور على الوجه فى الشرفة، عندما تقوم سامية بحلاقة وجه أبيها، ننتقل إلى رجب ملفوفا بالغطاء فى الظلام مثل جثة، ومن كادر مقسوم بين حجرة رجب، حجرة ابنته، ننتقل إلى مشاهد القطار والسفن وهى تعبر أمام شرفة الرجل، علامة ثابتة، والدنيا حوله تموج بالحركة.
يظهر رجب أحيانا متربعا مثل طفل كبير، ولكن الكادر حوله فارغ، وكأنه يترجم فراغ حياته الراهنة، رغم امتلائه بحكايات الماضي، وعندما يعكس البروجكتور برنامج «نجمك المفضل»، مستضيفا عمالقة الحياة الأدبية المصرية، تضع هند بطلها متكوما فى زاوية من اللقطة، وتسقط عليه صور أدباء العاصمة، الذين لم يتكيف معهم، فى تكوين بديع يحدد حجم رجب، ومدى تهميشه و يغنى عن أى كلام.
من حلول المخرجة الجميلة أيضا أن نسمع صوت محمد حافظ رجب على شريط الصوت، بينما يبدو صامتا أمام الكاميرا، وكأن هذه الثنائية بين الصمت والكلام مستمرة معنا، وبطرق مختلفة أو كان التعبير الصامت البليغ يجد دوما ما يوافقه من بوح فى سياق آخر، ثم تأتى مقاطع يقرأها رجب من قصصه القصيرة، أو من رسالة كتبها لصديقه إبراهيم أصلان أو من سيرته الذاتية أو مقاطع من القصص بصوت المخرجة، كل ذلك يكمل هذا البناء المتماسك، وينتقل بنا من لحظة إلى أخرى، بحضور فائق من بطل الفيلم، الذى يبدو أنه اكتشف أخيرا أهمية أن يكتب قصته الأخيرة بالصورة، مثلما كتب قصصه على الورق.
لا ينحاز الفيلم إلى تفسير بعينه لصمت بطله ولأبتعاده، ولحظة الأشراق الصوفية، التى يعبر عنها رجب بحديثه عن صوت سمعه فى مسجد السيدة زينب، ودفعه للعودة إلى الإسكندرية، والعودة إلى الله، هذه اللحظة الغريبة قدمت بشكل موفق بلقطات للأنوار الملونة، أما النهاية المفتوحة بعد الحوار مع الأديب الشاب، عدم مبالاة رجب بما قيل عنه فى ندوة سكندرية حضرها 25 من المبدعين، هذه النهاية أيضا مفتوحة، وتحتمل تفسيرات مختلفة.
تمنيت فقط لو ركّز الفيلم قليلا على علاقة رجب بوالده، أظنها من مفاتيح قراءة شخصيته، تحدث للمخرجة مثلا بعبارات استوقفتنى جدا، حيث قال إن والده كان يحبه أكثر من أى شيء فى الدنيا، ويكرهه فى نفس الوقت أكثر من أى شيء فى الدنيا.
طلقت والدة محمد حافظ رجب وهو تلميذ فى المدرسة، فتزوج والده من جديد، وفشل رجب دراسيا، ثم أجبره والده على الزواج فى سن السابعة عشرة، ولم يكن الأب يريد لابنه أن يكون أديبا، وبدلا من ذلك أراد أن يعمل معه فى دكانه، ونسمع محمد حافظ رجب يقول: إن والده كان يريد التخلص منه، ونسمعه أيضا وهو يقرأ قصة كتبها عن قتل الأب بطريقة بشعة، ومع ذلك كله يقول: إنه كان «يعبد والده».
لا أعرف كيف مرت هذه العلاقة بدون تحليل مستفيض، بدون ربط فكرة «الأب الأرضي»، الذى تمرد عليه رجب، ب «الأب السماوي»، الذى عاد إليه رجب متصوفا ومصليا، فكرة «عبادة الأب»، التى ذكرها رجب كانت تصلح مفتاحا، تبرر التمرد، الشعور بالذنب، الذى يتردد كثيرا فى كلام رجب، وتبرر أيضا اتجاه الرجل للتصوف بعد أن خذله البشر.
هذه مجرد قراءة لما شاهدت، ولكن الفيلم ثرى جدا، ويحتمل قراءات أخرى كثيرة، بل ويحتمل أن يقرأ باعتباره حضورا عارما للإسكندرية ومبدعها، فى مواجهة القاهرة التى لفظته أو لم يتكيف معها، فالقاهرة عند رجب هى بلد الكهنة والبهوات، وتظهر فى الفيلم كصور فوتوغرافية صامتة، أو فى أخبار أرشيفية قديمة، بينما تتألق الإسكندرية فى الفيلم بأماكنها الحية، وتبدو الحياة حاضرة من الشرفة، مثلما هى حاضرة فى الشوارع، حتى فى ندوات المثقفين السكندريين فى النادى النوبي، التى نسمع على شريط الصوت جانبا منها.
لقد جعل هذا الفيلم غياب محمد حافظ رجب الطويل حضورا عارما على شريط يعيش ويبقى، ورد للإسكندرية دورها الثقافى والحضاري، فهى ليست الهامش ولن تكون، كما أن وجود مبدعين شباب قدموا الفيلم، تمثلهم هند بكر وزملاؤها فى شركة روفيز المستقلة، يؤكد من جديد أن مسيرة الإبداع السكندرية مستمرة، من رجب، الجد المعتزل إلى أحفاده الطموحين من الأدباء والسينمائيين.