طوال أكثر من ساعتين، أدهشني هذا الفيلم الذي أعتبره أحد أكثر الأفلام الأمريكية التي شاهدتها هذا العام (2024) مكرا وذكاء وخيالا وذكاء في المعالجة، والذي أراه فيلما عن أمريكا نفسها، بوجهيها الحقيقي والمزيف، أمريكا الأصلية، و أمريكا الصورة المفبركة، وليس فقط عن حكاية نزول الإنسان علي سطح القمر من خلال رحلة أبولو 11 التاريخية في يوليو من العام 1969، هذه الحكاية مجرد وسيلة لاكتشاف وجوه وكواليس عالم السياسة والبروباجاندا في أمريكا، مع الانحياز لفكرة الوصول إلي القمر، ليس فقط من منطلق علمي تكنولوجي، ولكن باعتبارها مجازا لوصول الحلم الأمريكي إلي أقصي مستوياته، وخصوصا مع استدعاء أجواء الحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفيتي في الستينيات، والتي تتكرر من جديد هذه الأيام في مواجهة روسيا، أي أن استدعاء الماضي، يحمل أيضا إسقاطا علي الحاضر والمعاصر.
الفيلم بعنوان « طر بي إلي القمر » بطولة سكارليت جوهانسون وشانينج تاتوم وودي هارلسون، ومن إخراج جريج بيرلانتي، وعنوانه مأخوذ عن أغنية لفرانك سيناترا، يمجد فيه حلم الوصول إلي القمر في الستينيات، والأحداث تبدأ بقرار الرئيس كينيدي بأن يبدأ برنامج فضائي أمريكي لهبوط الإنسان علي القمر، وأن يتحقق هذا الحلم بنهاية عقد الستينيات، وكان قرار كينيدي ردا علي نجاح الاتحاد السوفيتي في إطلاق أول قمر صناعي يدور حول الأرض وهو سبوتنيك، ثم نجاحه في إرسال أول سفينة فضاء تدور حول القمر، وعليها رائد الفضاء يوري جاجارين ، فاعتبر كينيدي أن تحدي الفضاء هو عنوان معركة أمريكا العلمية والتكنولوجية، بينما كانت هناك أصوات تطالب بتقليل ميزانية وكالة الفضاء الأمريكية ناسا، لصالح ميزانيات داخلية، وللإنفاق علي حرب فيتنام، التي تورطت فيها أمريكا، والتي كانت تمر بفترات هزائم صعبة وقاسية.
علي خلفية هذا المشروع للوصول إلي القمر تدور مسخرة كاملة، ولعبة ذكية بين ثلاث شخصيات هي: كول المسؤول عن برنامج إطلاق أبولو 11، وهو شخص جاد يمثل أمريكا الحقيقية، أو الأمريكي النموذجي، حارب في كوريا كطيار، وحاول أن يكون رائد فضاء، ولكن مشكلات في قلبه منعته من تحقيق ذلك، فاكتفي بأن يدير رحلة الإطلاق من الأرض، ولكنه يحمل أيضا ذكري مؤلمة، لأنه كان مسؤولا أيضا عن إطلاق رحلة أبولو 1، والتي انفجرت بروّادها، ولذلك فإنه في معركة شخصية للتحدي وللتعويض، علي طريقة المهزومين في المباريات الرياضية، والباحثين عن الانتصار من جديد.
الشخصية الثانية هي كيلي وهي نصّابة ذات ماض مشين، قررت أن تعمل في شركة قانونية للدعاية، ولكنها مازالت تمارس الكذب والاختلاق في عملها، والغاية عندها تبرر الوسيلة، وستجد نفسها، بتكليف من الشخصية الثالثة الغامضة مو، مكلفة بالعمل في منصب مديرة العلاقات العامة لمشروع أبولو الفضائي، وللحصول علي دعم رجال الكونجرس لمشروع الوصول إلي القمر، ومو يقدمه الفيلم باعتباره مدير مكتب الرئيس نيكسون، اسمه مزيف مثل كيلي، وهو الوجه الآخر في السياسة لكيلي، فالغاية عنده أيضا تبرر الوسيلة، وسيكون تفاعل هذه الشخصيات معا ترجمة لوجوه أمريكية مختلفة، أصبحت موضع اختبار لتحقيق «الحلم الأمريكي» بالصعود إلي القمر، فهل سيتم ذلك عبر الحقائق أم الأكاذيب؟
بناء السيناريو ممتاز، وينتقل ببراعة من مرحلة أخري، وإن كان يحتاج إلي بعض التكثيف والضبط ليكون الفيلم أكثر إحكاما، ولكن علاقة كيلي تتطور بالتناقض مع كول الجاد، وبالتعاون مع مو، ومندوبة الدعاية تكذب في تصدير صورة غير حقيقية عن موظفي وعلماء ناسا، للحصول علي تعاطف الناس، بينما يعمل كول وفريقه بجدية لمدة 8 شهور في سبيل تحقيق حلم الهبوط علي سطح القمر.
ومو ينتقل من دعم كيلي في أكاذيب ناسا، والحصول علي تأييد رجال الكونجرس الرافضين للتمويل، إلي مرحلة تقديم كاميرا حديثة لتصوير الهبوط علي القمر، ثم المرحلة الأخطر بتكليف كيلي بالإشراف علي مشاهد مفبركة للهبوط علي سطح القمر، يمكن إذاعتها لو فشلت الرحلة، وأخيرا يقرر مو أن تكون هذه المشاهد المفبركة هي ما سيبث فعلا، حتي لو نجحت الرحلة، مع تعطيل الكاميرا الأصلية التي ستصور الهبوط الحقيقي.
هنا فكرة مذهلة تضع الزيف الأمريكي في مواجهة الحقيقة والحلم، وتضع الأمريكي الأصلي في مواجهة الأمريكي الفالصو، وتقارن ببراعة بين الحلم كهوية وهدف سام، وبين الحلم كسلعة يمكن تسويقها، أي أن المقارنة بين أمريكا كفكرة أسست علي قيم معينة، وبين تحويل هذه القيم إلي سلعة يمكن الدعاية لها بأكاذيب وإعلانات، وبينما يعتبر كول أن الحلم معركة شخصية، فإن كيلي تعتبره حملة تسويقية دعائية، وتستخدم رجال الفضاء للدعاية لمنتجات وسلع غذائية، بل وتعتبر رحلة أبولو وسيلة للتخلص من ماضيها، ومجرد صفقة لفبركة الهبوط علي القمر، مقابل تخلص مو من ملفها القديم في النصب والاحتيال، أما مو فهو ممثل السياسة الضارة، التي لا تختلف كثيرا عن النصب، وهو نقيض شخصية كينيدي، رجل السياسة، الذي أطلق وعدا سيتم تحقيقه فعلا بالهبوط علي القمر.
من سينتصر في هذه اللعبة؟ الفيلم يجعل أمريكا الحقيقية هي التي تنتصر، بأن تتغير كيلي بسبب ما تراه من علماء ناسا، وبسبب حبها لكول، ولكن الإنتصار يبدو ملتبسا، لأن كيلي ستنصب هذه المرة علي مو نفسه، وستقنعه بأن ما يُبث هو الفيديو المفبرك للهبوط علي القمر، بينما كانت قد ساعدت في تشغيل الكاميرا الأصلية، التي تسجل الهبوط الحقيقي لمركبة أبولو 11، ولقطات مشي رواد الفضاء الشهيرة علي سطح القمر.
نظل حتي قرب نهاية الفيلم بين الأصلي والمزيف، ورغم أن الفيلم يقول إن ما شاهدناه هو الصورة الحقيقية للهبوط، إلا أن قبول كول بخداع مو، وزواجه من كيلي التائبة عن النصب، يجعل ثنائية الحقيقي والمزيف مستمرة، وإن كان الفيلم بوضوح مع برنامج ناسا، التي لم تعد وكالة علمية، ولكنها تجسيد لتحقيق الحلم الأمريكي خارج الكوكب، بل وترجمة للانتصار الفضائي تعويضا عن الهزائم الأرضية في فيتنام!
الفكرة الضمنية الماكرة أيضا هي أن الفيلم يفند الدعاية السوفيتية وقتها، بل والنظرية المستمرة حتي اليوم، بأن مشاهد الهبوط علي القمر مفبركة ومصورة علي الأرض، بدليل رفرفة العلم الذي تم غرسه علي بحر السكون في القمر، بينما لا يوجد هواء أصلا علي سطح القمر، فكيف يرفرف العلم الأمريكي بدون هواء؟!
ولكن تفنيد هذا الأمر يتم بمكر من خلال افتراض وجود خطة فعلا لفبركة تصوير الهبوط علي القمر، وأن هذه الخطة حملت فعلا اسم «أرتميس»، ولكنها لم تنفذ، وبالتالي فإن ما شاهدناه هو التصوير الفعلي للهبوط علي سطح القمر.
أي أن السيناريو لا ينفي وجود أمريكا الكاذبة، ولكن يقول إن أمريكا الحقيقية المخلصة انتصرت عليها، ولا ينفي وجود من يزيفون ويكذبون في مجال الدعاية والسياسة والتسويق لكل شيء في أمريكا، ولكن يقول إن هناك أشياء حقيقية تستحق الدفاع عنها، والمسافة الحقيقية في الفيلم ليست بين الأرض والقمر، ولكن بين نيويورك القادمة منها النصّابة كيلي، وبين فلوريدا حيث مركز كينيدي، والعاملين فيه لتحقيق الحلم الأمريكي، بالهبوط علي سطح القمر، بمنتهي الجدية والصدق والإخلاص.
لذلك أقول إنه فيلم ماكر جدا، هدفه الدفاع عن الحلم الأمريكي الحقيقي، بمحاربة الكذابين، وبتفنيد حجج أعداء أمريكا، فالهبوط علي القمر حقيقة، وهو ليس مجرد إنجاز علمي، ولكنه نجاح جديد ل أمريكا في مواجهة أعدائها، ونجاح للحلم الأمريكي، سواء في مواجهة الإتحاد السوفيتي، أو في مواجهة أمريكيين مزيفين وكاذبين يجب التخلص منهم.
الفيلم الذي تألقت فيه سكارليت جوهانسون في دور كيلي، وتألق فيه شانينج تاتوم في دور كول، والمخضرم وودي هارلسون في دور مو، يثبت أيضا خطورة صورة أمريكا الكاذبة علي حقيقة أمريكا الحلم والعمل والجدية، ولكنه أيضا، وهنا وجه المفارقة، يصدّر صورة دعائية عن الهبوط علي القمر، لا تناقش الحيثيات العلمية للتشكيك في فبركة صور الهبوط، ولا تنفي وجود نية للفبركة، ولكنها تقول إن الهبوط حدث فعلا، أما «صورته» فيمكنك أن تقبلها أو ترفضها كما تشاء، أي أن الإنجاز الأمريكي، والحلم الأمريكي حقيقة، أما تصويره وتوثيقه، فخاضع للنقاش وفق معتقداتك، ووفقا لمدي ثقتك في الفكرة الأمريكية.
«طر بي إلي القمر» حكاية عن أمريكا في شكل رحلة صعود ونجاح، سواء لعلماء ناسا أو لأبطال الحكاية، وبينما تتعدد وجوه القمر، تتعدد وجوه أمريكا، وتختلف الآراء حول حقيقة صورتها، الحافلة بالتناقضات، ولكن لا تنسي أن القمر يعكس الشمس، وأنه يضيء ليل الأرض في كل الأحوال.