"وحشتيني" نوستالجيا في منتصف الطريق !

"وحشتيني" نوستالجيا في منتصف الطريق !محمود عبد الشكور

الرأى8-9-2024 | 15:30

ذهبت إلى " فيلم وحشتيني " للمخرج السويسرى من أصول مصرية تامر روجلي، بكثير من الحماس ، وبكثير من التفاؤل من مشاركة المخرج يسرى نصرالله فى كتابة الفيلم، وبسبب حشد الممثلين، فالفيلم من بطولة الممثلة الفرنسية الكبيرة فانى أردان، والمخرجة والممثلة اللبنانية نادين لبكي ، مع نخبة من الممثلين المصريين مثل منحة البطراوى وحسن العدل وسلوى عثمان وإنعام سالوسة، وصاحبنى أيضا الكثير من الفضول لمشاهدة معالجة جديدة لأفلام استعادة الذاكرة والحنين ومواجهة الماضي، ومشاهدة العمل الروائى الطويل الأول لمخرج يستعيد ذكريات وطن أمه، وينظر بشكل جديد إلى العلاقة بين عالمين عاش فيهما بين سويسرا ومصر.

لكن التوقعات والطموحات لم تكن على مستوى ما شاهدت، وزاد حزنى لأن مادة الفيلم وإمكانياته، ولأن بعض مشاهده، كان يمكن أن تكون مادة ممتازة لفيلم مهم. وبدا لى أن مشكلة تامر الأساسية أن فيلمه ظل معلّقا فى كتابته فى منتصف الطريق، فاختل التوازن بين الحنين والذكريات من ناحية، وبين المواجهة ومحاكمة الماضى من ناحية أخرى، وكانت الغلبة للـ نوستالجيا، بل للـ نوستالجيا فى صورتها البسيطة والمباشرة، باستعادة الملابس والسيارات والأغانى القديمة مثل أغنية "أهواك"، بينما ظل خط مواجهة الماضي، والعلاقة مع الأم محدودا ومحاصرا بمعلومات قليلة وشحيحة.

نحن أيضا فى منتصف الطريق بين تناقض ثقافى بين عالمين، وبين تناقض بين أم وابنتها، كما تأكدت حكاية منتصف الطريق تلك على المستوى اللغوي، حيث ننتقل فى المشهد الواحد بين اللغة الفرنسية والعربية، بل إن الفيلم اسمه مزدوج، الأول هو "وحشتني"، والثانى مكتوب بالإنجليزية وموجه بالطبع للمشاهد الأجنبى وترجمته " العودة الى الإسكندرية".

لست ضد تسويق الفيلم بصورة تناسب ثقافة كل سوق، ولست ضد الاستعانة بممثلين غير مصريين لأداء شخصيات مصرية، ولكنى أتحدث عن مشكلات حقيقية فى الدراما ، إذ قد تكون نادين لبكى معقولة فى دور الابنة المصرية، ونطقها للهجة مقبول، خاصة أن الشخصية عائدة بعد عشرين عاما من الغربة، لكن أن تتحدث أمها المصرية فيروز بالفرنسية طوال الوقت، وأن تُستدعى الأم فى ذاكرة الابنة كناطقة بالفرنسية، مع كلمات عربية وأغنيات تؤديها فانى أردان على طريقة داليدا المضحكة فى فيلم "اليوم السادس"، فإنه بالتأكيد أمر غريب أثّر على مصداقية الدراما، وعلى مصداقية الذاكرة أيضا، فاللغة واللهجة ليستا أمرين شكليين، ولكنهما عناصر جوهرية فى الذاكرة والتعبير.

من المفهوم أن سو، وهى إخصائية نفسية مهاجرة من مصر إلى سويسرا، وأمها فيروز من عائلة أرستقراطية، تعليمهما فرنسي، وتخلطان فى حواراتهما بين الفرنسية والعربية، ولكن الأم بالذات يجب أن تكون استدعاء للذاكرة العربية، مع قليل من الفرنسية، وليس العكس.

ينهض بناء الفيلم كله على فكرة استدعاء الخالة إنجى (منحة البطراوي)، لابنة أختها سو للعودة إلى مصر، لأن الأم مريضة، وربما لوداع الأم، إذا كان ما تعانيه هو مرض الموت لا بأس من هذه الحيلة الدرامية لمواجهة الماضي، ولاكتشاف مصر بعد عشرين عاما، ولا بأس أيضا من حيلة ظهور الأم ومعها طفل صغير، كأشباح تراهما الابنة سو، ويظهران لها طوال الوقت، ولكن المشكلات ظهرت مع الوصول إلى مصر، فالمفترض أن تذهب الابنة مباشرة إلى الإسكندرية، حيث تعيش الأم، ولكنها تذهب أولا إلى الخالة فى الزمالك (!!)، ثم تقضى يوما فى أحد الفنادق، بحجة عدم وجود تذاكر فى القطارات، ثم تذهب أخيرا إلى الإسكندرية .

معظم حكايات الماضى ستصل إلينا من حوارات سو مع شبح الأم، وشبح الطفل، والقليل جدا من خلال الخالة إنجي، والخادم رضا (حسن العدل)، وستظهر أيضا أشباح الجدة ( ليلى عز العرب)، وصديقاتها العجوزات، وكل ذلك من خلال عيون سو، التى لا يمكن أن نفهم خيالاتها، إلا باعتبارها مؤلفة واسعة الخيال، أو بوصفها مريضة، وأعنى بذلك أن هذه الحيلة بدت أضعف من أن تحمل كل ما شاهدناه، وخصوصا أن التعليقات المرحة والأجواء الخيالية تتناقض من أجواء الواقع الراهن.

تكررت أيضا فى بعض المشاهد جوانب أزمة الابنة مع أمها، فالأم حرمت ابنتها من الزواج من شاب فقير أحبته، ودبرت له الأم تهمة بالسرقة للتخلص منه، والابنة اكتشفت أن الأم لها حبيب بخلاف زوجها (والد سو)، وتواجه الابنة شبح أمها فى الطريق الصحراوي، بسبب هذه النزعة السلطوية، والتى ورثتها الأم فيروز فيما يبدو عن والدتها.

ظل هذا الخط متناقضا تقريبا مع واقع الحنين إلى الماضي، والذى يعبر عن نفسه، بارتداء سو لفستان يشبه فستان وموضة الأم فى الماضي، وحصولها على عربة كاديلاك مكشوفة من الخالة، وسماع أغانى قديمة، مع إشارة إلى مشروع علاقة ما بين سو وسائق تاكسى مصري، تخرج فى كلية الهندسة، يظهر مرة أخرى فى النهاية، ومن يدرى فقد تجمعه بها صدفة ثالثة، وقد يكون خيارها لاستعادة حبيب مصرى مفقود، حرمت منه سو بأمر الأم، منذ عشرين عاما.

عولجت الحكاية والشخصيات بكثير من السذاجة والسطحية، رغم جمال فكرة توارث الجدة والأم والحفيدة لفكرة التسلط والاستبداد، ورغم تقاطع حكاية السخرية من الطبقة الوسطى مع عالم يسرى نصرالله، بل وعالم يوسف شاهين، الذى انتقد هذه الطبقة فى أفلام مثل "بين إيديك" و"فجر يوم جديد"، كما أن حكاية الطفل الشقى الذى يبعث الماضى حاضرة أيضا فى فيلم "حدوتة مصرية"، ولكن الصورة عموما ظلت تنقصها الرؤية الأعمق، والرسم الأفضل للشخصيات، والتضفير الأفضل لخطى ال نوستالجيا والمواجهة.

ضاف إلى ذلك غياب الإسكندرية تقريبا مع أنها مكان النهاية، وعنوان الحكاية، إلا أن حضور القاهرة فى الفيلم، ومنطقة الزمالك تحديدا، أكبر وأفضل.

بقى من التجربة طموحها، وطاقة حب وحنين لا يمكن إنكارهما، وأداء مميز لمعظم الممثلين، إذا تغاضينا عن حكاية اللغة، وأفضل مشاهد فانى أردان ونادين لبكى فى مواجهتهما الصحراوية، كما أن الرائعتين منحة البطراوى فى دور الخالة إنجي، وإنعام سالوسة فى دور المربية الوفية، والفنان حسن العدل فى دور الخادم، لا يقلّون براعة وحضورا.

كانت الكتابة فى حاجة إلى مزيد من التماسك، فلم نعرف بالضبط هل هذه حكاية حنين إلى الماضى أم حكاية تمرد ورفض له؟ من الصحيح أن تامر روجلى مخرج جيد، ولديه عين جيدة فى اختيار الأماكن، وعمل تكوينات درامية، ويدير ممثليه بشكل جيد، ولكنه يحتاج إلى مراجعة مسألة الكتابة هذه فى أعماله القادمة، لأنها أصل وأساس كل شيء، وبدونها كأنك تحرث فى البحر أمام الإسكندرية.

أضف تعليق