سمر التي هزمت المأساة

سمر التي هزمت المأساةمحمود عبد الشكور

الرأى15-9-2024 | 14:44

تشعر وأنت تشاهد هذا الفيلم بمزيج من الإعجاب والوجع.. الإعجاب بل والفخر بوجود نماذج نسائية مصرية، علي هذا القدر من القوة والمثابرة والقدرة علي ترويض ظروفهن الصعبة، والوجع والألم؛ لأن هناك بعض الوحوش الذين يشوهون وجوه النساء، بالمواد الكاوية ، ويدخلونهن في تجارب قاسية، ويكون الجزاء بضعة سنوات في السجن، يخرج بعدها المجرم من جديد، وقد يعود إلي التهديد، ثم ارتكاب جرائمه الشنيعة.

الفيلم التسجيلي " سمر .. قبل آخر صورة "، للمخرجة آية الله يوسف، التي قامت أيضا بالمونتاج والإنتاج، والتي صوّرت بعض مشاهده، منحنا كل هذه المشاعر، ونحن نتابع رحلة مدهشة لمخرجة الفيلم، التي تعرّفت علي سمر ، الفتاة التي قام طليقها بشتويه وجهها بمادة كاوية، لأنها تركته، ولكن حياتها لم تتوقف، بل إنها قررت أن تساعد من هن في نفس ظروفهن، ومنهن فتاة اسمها سناء، أقل تعليما وثقافة، والحكاية عن سمر وسناء ، والسفر إلي الإمارات ، لإجراء جراحة لسناء، ولكن الفيلم أيضا عن آية، التي استغرقتها الحكاية، والتي استلهمت قوة ومثابرة سمر وسناء، فظلت تكافح لإخراج هذا الفيلم إلي النور علي مدي 8 سنوات كاملة.

المهم في الفيلم التسجيلي ، ليس فقط العثور علي الفكرة والشخصية، ونقطة البدء، ولكن تطوير الفكرة، وسمر، التي يحمل الفيلم اسمها، ستفتح لنا أبواب حكاية سناء، وربما حكايات لفتيات أخريات، تعرضن لهذا العنف المدمر، و سمر أيضا ستفتح الباب أمام المخرجة، التي تظهر في فيلمها، سواء أمام الكاميرا ، أو بصوتها خلف الكاميرا، لكي تنضج وتكبر وتكتشف نماذج إنسانية أخري، وهكذا تتطور بذرة حكاية محدودة عن سمر وحالتها، إلي حكاية صداقة غريبة بين ثلاث نساء، جمعتهن رحلة لإجراء عملية، ولعمل فيلم أيضا.

هنا تطوير ذكي ومؤثر، أدي إلي بناء جيد للغاية للفيلم، حيث نبدأ برسالة صوتية تركتها آية لسمر، تخبرها فيها أنها أنجزت النسخة الأولي من الفيلم، ثم نعود إلي الماضي، فنري سمر وهي في بلدتها بالمنوفية، تتجمل وتستخدم أدوات تعيد إصلاح ما سببته المادة الكاوية في الحواجب وجلد الوجة، ونتابعها بعد ذلك وهي ترسم، وتروّج عبر الإنترنت، لمنتجات خاصة بالعناية بالشعر، ونراها أيضا وهي تعمل وتقوم بتصوير بعض الأوراق، ثم نري جلسة مع المخرجة آية، وصديقتهما المشتركة الثالثة نرمين، التي ساعدت سمر علي الوقوف علي قدميها بعد الحادثة، وكان دافع الحادثة انتقام طليقها منها، بعد انفصالها عنه.

ننتقل بسلاسة إلي الجزء الثاني، بحديث سمر ونرمين عن أهمية مساعدة أخريات، وهنا نري حكاية سناء، التي تشوه وجهها بمادة كاوية من رجل أيضا، وهي تعيش في بيئة فقيرة، ولكنها قوية ومتماسكة، تدرك أن فرصتها قلّت في الزواج، ولكنها تعيش حياتها بدعم أمها، ونراها ثم تجري عملية في مستشفي بمصر، وتوافق علي أن تذهب إلي الإمارات، لإجراء عملية أكثر تعقيدا، تتعلق بإضافة عين صناعية، وتجميل الوجه، وبدون تكلفة في النفقات.

ننتقل بسلاسة أيضا إلي الجزء الثالث، بإجراء هذه العملية في الإمارات، ولكن بعد تطورات مهمة، حيث تتحول علاقة سمر وسناء وآية إلي صداقة حقيقية، لحظات حزن وتوتر وبكاء أحيانا، تتبعها لحظات سعادة ومرح وضحكات صافية، تتعرف سمر إلي شاب مصري يعيش هناك، وترتبط به، تنجح العملية، وتبقي سمر وسناء.

في الجزء الرابع والأخير، نعود إلي رسالة آية إلي سمر، والتي بدأ بها الفيلم، ونعرف أن زواج سمر قد فشل، وأنها تركت عملها في الإمارات، في مصر تلتقي سمر مع آية ونرمين، مثل مشهد البداية، ورغم إحباط سمر، وإعلانها أنها سجلت أهدافا في مرمي ظروفها الصعبة، ولكنها لم تكسب المباراة بعد، إلا أن صورة تذكارية سعيدة، تخبرنا أن سمر قوية بما يكفي لكي تكمل المعركة، بمساندة صديقتيها، ونقرأ علي الشاشة أرقاما غير مؤكدة عن ضحايا تشوهات مياه النار من الفتيات، وعن حياة سمر المهددة حتي اليوم، بعد خروج طليقها من السجن، وإقامته في نفس الحي الذي تقيم فيه.

انظر إلي هذا البناء المتماسك، الذي يجمع بين التصوير الواقعي والعفوي للشخصيات، وبين فواصل تعبيرية ذكية، صنعت حلولا بصرية ممتازة، كأن يبدأ الفيلم بالمخرجة وهي تتأمل وجوه المانيكانات الجميلة في الفتارين، ثم ننتقل إلي وجه سمر المشوه، وهي تتجمل، ومن تلك الحلول، بل من أفضل مشاهد الفيلم، كابوس يهاجم آية، تتخيل فيه أنها هي أيضا عرضة للهجوم، تفتح النور وتغلقه، ثم تفتحه لنري لوحة رسمتها سمر لفتاة يجمع وجهها بين الجمال والتشوه، وحتي في الإمارات، كانت هناك مشاهد تعبيرية ذكية، باستخدام أقنعة ودمي أحد المهرجانات.

لم يخدش هذا البناء الممتاز لمادة الفيلم سوي تأخر معرفتنا بأن سمر شاهدت حادثة سناء وتشوه وجهها في التليفزيون، وكان يشاهد المنظر معها زوجها، الذي هددها بأن يشوهها كما تشوهت سناء، فهذه معلومة خطيرة تؤسس لعلاقة سمر وسناء، وكان ينبغي أن تكون في الربع الأول من الفيلم، وهي معلومة مهمة دراميا، سواء في الكشف عن "سبق إصرار" المجرم علي ارتكاب جريمته، أو في تحويل علاقة سمر وسناء من مجرد علاقة عامة إلي حكاية خاصة، فالزوج شوه وجه سمر بعد أن رأي ما حدث لسناء، وها هي سمر تساعد سناء، وكأنها تدافع عن وجهها هي، وتفسد انتقام طليقها مرة أخري.

لاحظتُ أيضا رداءة تسجيل الصوت في بعض المشاهد، مما تطلب كتابة الحوار باللغة العربية علي الشاشة، ولكن الفيلم نجح بالمقابل في تحقيق معادلات شديدة الصعوبة، فالفيلم عن مأساة حقيقية، ومع ذلك فهو يتضمن لحظات سعادة صادقة، وطاقة حب وتفاؤل غير محدودة، والفيلم عن فتاتين في حالة تشوه جسدي، ومع ذلك فهما، ويللغرابة، نماذج للقوة والقدرة النفسية، مع تباين مستواهما الثقافي والاجتماعي، والفيلم عن رجلين من الأوغاد، قاما بتشويه وجهين لامرأتين، وفيه أيضا حكاية رجل وغد ثالث، تزوج سمر في الإمارات، واستغلها، كما تقول، ثم انفصل عنها، ومع ذلك فإن الفيلم ليس ضد الرجال عموما، وصدمة سمر وسناء في رجلين، لم تمنعهما بالحلم بالزواج، وبينما تسبب الرجال في المأساة، فإن من يقوم بتركيب العين الصناعية، وتجميل وجه سناء، هو رجل أيضا، وأعني بذلك الطبيب الهندي، الذي قام بإجراء العملية.

أجمل ما في الفيلم أيضا أنه أخفي الرجال الأوغاد، حتي زوج سمر في الإمارات، نراه في لقطات عابرة كسائق يرافقها، مجرد سائق، وهذا الإخفاء ليس موقفا أو نقصا في المعلومات، ولكن لأن الحكاية عن بطلاتنا فقط، وهن تتحدثن بصدق مدهش، ولا تري سمر أنها سوبروومان، رغم أن ما تحكية من ثباتها يوم الحادث هو في الحقيقة أمر خارق واستثنائي وعجيب، وتبدو قوة سناء وأمها العظيمة أيضا أمرا استثنائيا. وفي الندوة التي أعقبت عرض الفيلم في سينما زاوية، شرح الطبيب النفسي المرموق د نبيل القط، سر هذه القوة عند سمر وسناء، رغم اختلافهما من حيث التعليم والوعي والثقافة، بأنهما تربيا في بيئة داعمة من الأب والأم، هذا فارق مهم في التأسيس النفسي، والمرونة النفسية، التي تساعد الفرد علي الصمود في مواجهة الكوارث.

« سمر .. قبل آخر صورة» حكاية عن القوة الكامنة الهائلة التي تفجرها الأزمات الصعبة في النساء، أكثر من كونها حكاية مأساة أو كارثة، فنحن إذن نستطيع ونقدر رغم الألم ولحظات الإحباط.

هو أيضا فيلم عن تضامن النساء الذي يهزم المأساة، وأتمني فعلا أن يحرّض هذا الفيلم الوزارات المعنية، كالتضامن الاجتماعي والصحة والسكان، والجهات المهتمة بالمرأة، كالمجلس القومي للمرأة، علي عمل صندوق، أو إنشاء مبادرة لرعاية ضحاياة التشوه بالمواد الكاوية من النساء، علي أن تتم هذه الرعاية الجسدية والنفسية، بطريقة كريمة ومستدامة وفعّالة.

مادامت لدينا نماذج، مثل سمر وسناء وآية، سننجح حقا في هزيمة المأساة، وفي علاج كل تشوهات المجتمع، قبل علاج كل تشوهات الأجساد والوجوه.

أضف تعليق

حظر الأونروا .. الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2