" أكتوبر ".. ذاكرة العمر كله

" أكتوبر ".. ذاكرة العمر كلهمحمود عبد الشكور

الرأى22-9-2024 | 15:01

عندما أكتب اليوم عن مجلتي الغالية ( مجلة أكتوبر )، بعد ثلاثين عامًا من العمل والكتابة والنشر علي صفحاتها، فإنني أكتب في الحقيقة عن ذكريات العمر كله، فقد عرفتها منذ عددها الأول كقارئ صغير، يحب الصحف والمجلات، ويبحث عن المعرفة أينما وجدت، ويلتهم ما يحضره والده من صحف وكتب، وكأن هذه المرحلة الأولي التأسيسية، تمهد لمرحلة الاحتراف، وتمنحها جذورًا قديمة ممتدة، وكأن ( مجلة أكتوبر ) بالنسبة لي، ولكثيرين من أبناء جيلي، محور أساسي في ثقافتهم ومعارفهم ووعيهم، بصرف النظر عن العمل فيها، ويغض النظر عن امتهانهم للصحافة، أو ابتعادهم عنها.

سجلت حكايتي مع المجلة في مقالاتٍ كثيرة، وحكيتُ عن ذلك تفصيليًّا في كتابي «كنت صبيا في السبعينيات»، فكتبت حرفيًّا:

«وحتي عندما صدر العدد الأول من مجلة أكتوبر ، برئاسة تحرير أنيس منصور ، في ديسمبر 1976، كان العدد في منزلنا يوم صدوره، وكانت أول مجلة تصمد للبقاء بعد 1952، بدعمٍ مباشر من الرئيس السادات الذي حكي في العدد الأول عن «ذوبان الجليد بين القاهرة وموسكو».

أذكر أن الصفحة الأولي من العدد خُصصت للتنويه عن انفراد المجلة بنشر ترجمة لمذكرات سوزان طه حسين بعنوان: «معك»، كانت المجلة إضافة جديدة للحياة الصحفية، كتب إحسان عبد القدوس في العدد الأول محاوراته الشهيرة «علي مقهي في الشارع السياسي».. وفي نفس العدد الأول، بدأ نشر رواية «الحرافيش» ل نجيب محفوظ مسلسلة، أتذكر أن أنيس وصف الرواية في مقدمة قصيرة بأنها «خلاصة فلسفة نجيب محفوظ عن الناس والحياة في مصر»، وكانت تلك الرواية أول عمل أقرأ بعض حلقاته لنجيب محفوظ..

لم يكن يعيب المجلة الجديدة سوي البنط الصغير الذي طبعت به، وقد تم تلافي هذا العيب في الأعداد التالية، لا أنسي أن المجلة دفعت لإذاعة إعلان تليفزيوني تشكر فيه نصف مليون مصري اشتروا العدد الأول، لا أعرف مدي صحة الرقم، ولكن الناس كانت سعيدة بظهور مجلةٍ جديدة تحمل اسم شهر النصر، لم أكن أعلم ولا أتخيل أنني سأعمل بمصادفةٍ غريبة في نفس المجلة التي اشتري أبي عددها الأول».

وكتبت أيضًا في نفس الكتاب:

«قرأت في مجلة أكتوبر الجديدة وقتها مقالات إحسان عبد القدوس وعنوانها «علي مقهي في الشارع السياسي». توقفت هذه المقالات فيما بعد بسبب اختلاف إحسان مع سياسات السادات.

أعجبتني مذكرات مترجمة منشورة علي صفحات المجلة مثل «معك» لسوزان طه حسين، ومذكرات الأميرة «أشرف» شقيقة شاه إيران، ومذكرات الإمبراطورة السابقة فرح ديبا زوجة شاه إيران، ومذكرات ثريا الزوجة السابقة للشاه.
وجدتُ في مقالات أنيس منصور بعنوان «القوي الخفية التي في أعماقك وأنت لا تدري» شيئًا جذابًا ومثيرًا للخيال، كانت أول مرة أسمع أو أقرأ فيها عن «نبوءات نوستراداموس»، كان أبي يضحك كثيرًا متذكرًا حكاية تحضير الأرواح باستخدام سبت المنزل التي نشرها أنيس منصور في الستينات.

كان أبي يحب أسلوب أنيس، ولكن لا يطمئن إلي تقلباته، كان أسلوب أنيس سهلًا، وعناوينه غريبه، أتذكر مثلا عنوانًا يقول: «الذين يمشون بأطراف أصابعهم فوق القانون»..

لكن المقالات التي تابعتها قرب نهاية حكم السادات ، وكتبها أنيس بمزاج هي بالتأكيد حلقات «في صالون العقاد.. كانت لنا أيام»، كان أبي يقرأها بانتظام، ثم أقرأها أنا، أسماء كثيرة لكتّاب وشخصيات مصرية وعالمية قرأتها لأول مرة في هذه الحلقات، كان الرئيس السادات نفسه ينتظر هذه السلسلة التي أعتقد أنها أهم وأفضل وأعمق ما كتب أنيس منصور .

استطاعت مجلة أكتوبر أن تجذب أيضًا توفيق الحكيم لكي يكتب علي صفحاتها بعض المقالات المعدودات، أتذكر المقال الأول الذي كان عنوانه: «فلما تكومت الفلوس أمامي»، الحكيم الخبيث كتب أول مقال له عن الفلوس التي دفعها له أنيس منصور لكي يكتب، قال إن أنيس حصل عليها من شنطة سميحة أيوب التي شهدت الصفقة! كان الحكيم قادرًا علي تحويل كل شيء إلي فن، كان فنانًا عظيمًا حتي النخاع.

لم تعجبني مقالات فايز حلاوة العنيفة، ذات مرة هاجم شهيرة زوجة محمود ياسين، ثم اضطرت المجلة إلي نشر رد عنيف لمحمود ياسين، لم يكن حلاوة كاتبًا جيدًا للمقالات (مقاله كان تحت عنوان «حلاويات»)، ولكنه كان فقط كاتب مسرحيات متميز، وممثل جيد في أدوار محددة.

أعجتبني كثيرًا مقالات عائشة صالح علي صفحتين في مجلة أكتوبر ، إنها ترسم بورتريهات فنية وإنسانية جميلة وعميقة، تكتبها بقلم حساس، وتقدم معلومات كثيرة، في ذاكرتي مقال كتبته عن وفاة «إلفيس بريسلي» في أغسطس من عام 1977.

كانت المرة الأولي التي أقرأ شيئًا عنه، كتبت عائشة إن المطرب الأسطوري (لم أكن قد سمعت له شيئًا، ولم يكن برنامج «العالم يغني» يذيع أغانيه أو لعله أذاع بعضها ولكني لم أشاهدها) كان ينوي زيارة مصر، وإقامة حفلة فيها، وإنه تناول كمية زائدة من المخدرات، فعُثر عليه ميتًا، تصدرت الصفحتان صورة مرسومة متخلية لإلفيس بريسلي وقد تمدد علي الأرض، منكفئًا علي وجهه، شكله غريب إلفيس بسوالفه الطويلة، ظل نجم النجوم حتي وفاته رغم ظهور فرق شهيرة كثيرة مثل «البيتلز/ الخنافس»

عملتُ في مجلة أكتوبر بطريقةٍ غريبة وفريدة، وربما غير مسبوقة، كنت قد التحقتُ بعد التخرج بأماكن كثيرة، نشرت لي موضوعاتٍ أعتز بها، ربما كان مكتب جريدة «الأنباء» الكويتية أبرز تلك الأماكن، ولكن المكتب أغلق أبوابه، بعد غزو الكويت في اغسطس من العام 1990، وبدأت رحلة البحث من جديد عن عمل صحفي أكثر استقرارًا.

من خلال صديق عمري الصحفي الراحل الكبير عبد الله كمال، عرفت أن صلاح منتصر، رئيس تحرير مجلة أكتوبر ، وقتها، يبحث عن صحفيين من الشباب، ويرحِّب بتعيين من يثبت موهبته منهم، فاتصلت تليفونيًّا بمكتب الأستاذ صلاح، وجاءني صوت مدير مكتبه الأستاذ سمير شاهين مرحبًا، ولكنه طلب أن أكتب تفاصيل طلبي في خطاب إلي الأستاذ صلاح، فتحمستُ علي الفور، وذهبت إلي المجلة، وتركت الخطاب الطويل، ورقم تليفوني في نهاية الخطاب، وطلبت فيه أيضًا مقابلة الأستاذ صلاح في أقرب وقت.

كنت أعمل في تلك الأيام كمحرر للديسك في جريدة «العالم اليوم»، مع العزير الراحل عاصم حنفي، لذلك نسيت أمر الخطاب، بعد أن مرت عدة أسابيع، ولكني فوجئت ذات يوم بتليفون من الراحل إسماعيل منتصر، مدير تحرير المجلة وقتها، يطلب مني الحضور لمقابلة الأستاذ صلاح.

اندهشت كثيرًا، لأنني لم أعتقد أن الرجل سيهتم بالخطاب، وزادت دهشتي بعد لقائه في مكتبه، وبعد أن اطلع علي أرشيفي المنشور، فقد طلب فورًا أن أنضم إلي محرري المجلة، وأن أعمل مع فريق «التحقيقات الصحفية» بقيادة الأستاذ إسماعيل منتصر.

والعجيب أن أول موضوع نُشر لي علي صفحات المجلة، كان في الأسبوع التالي من التحاقي بها، وكان تحقيقًا حول حادث اغتيال الراحل فرج فودة، بالاشتراك مع زميليّ وصديقيّ العمر والمجلة مصطفي علي محمود، وصالح الفتياني، وكانت تلك هي البداية.

جاء وقتٌ كنت أنشر في قسم التحقيقات، وأنشر مقالًا نقديا في السينما، وجاءت هذه الكتابة الفنية بترشيحٍ من صديق عمري محمد رفعت للراحل الكبير الموسيقار محمد قابيل، الذي منحني فرصة كتابة ونشر أول مقال نقدي عن فيلم سينمائي، وكان المقال عن فيلم «أرض الأحلام» للمخرج داود عبد السيد، وهو آخر فيلم قامت ببطولته فاتن حمامة.

تحققتُ صحفيًّا ونقديًّا علي صفحات مجلة أكتوبر ، مثلما تثقفت وقرأت وعرفت العالم والدنيا والحياة في صباي علي صفحاتها، ومن خلال كتّابها، الذين قرأت لهم جميعًا، وفي مراحل مختلفة، ثم أتيح لي بعد ذلك أن أعرفهم شخصيًّا، مثل المؤرخ الكبير الراحل الدكتور عبد العظيم رمضان، والمؤرخ الكبير الراحل الدكتور حسين مؤنس.

من ناحيةٍ أخري، عرفني النقاد من خلال كتابتي المنتظمة علي صفحات المجلة، وأدهشني عندما التقيتُ الراحل الكبير سمير فريد لأول مرة، أنه كان يتابع تلك المقالات، بالإضافة إلي مقالاتي في مرحلة تالية في جريدة «روز اليوسف» اليومية.

امتلكت («أكتوبر) اسما وسمعة ومكانة كبيرة منذ تأسيسها، وكان حضور أنيس منصور متواصلًا رغم ابتعاده عن المجلة، وفي أحيان كثيرة، كان الناس يستقبلوننا بترحاب كبير، لأننا صحفيون في مجلة (أكتوبر) «بتاعة أنيس منصور !»، وكانوا يصرون دائمًا علي أن المجلة اسمها «6 أكتوبر»، وليس «أكتوبر» فقط، وبالمناسبة فإن «6 أكتوبر» هو الاسم الأصلي للمجلة، قبل أن يوافق السادات علي تغييره إلي اسم أبسط هو (أكتوبر) فقط!

أعتز بموضوعاتٍ كثيرة في المجلة، منها مثلًا حوار طويل مع الطيار المصري الفذ الذي أسقط طائرة إسرائيلية في حرب يونيو 1967، رغم تحطم ممر الإقلاع في قاعدة أنشاص الجوية، وتحقيق طويل بالاشتراك مع صالح الفتياني عن ظاهرة إغماء البنات في البحيرة، وأول تحقيق عن ظاهرة «استنساخ البشر» مع الراحلة أسيمة جانو، وموضوع عن «يوم في حياة مهندس بترول»، بعد أن أمضيتُ وقتًا طويلًا في موقع ناءٍ للتنقيب عن البترول في الصحراء الغربية.

كما أعتز بموضوع عن عمارة مصر الجديدة المنهارة في زلزال 1992، حيث قضيتُ يومين متنقلًا بين موقع الانهيار المفجع، وبين مستشفي هليوبوليس المجاور، بحثًا عن قصص إنسانية، وكتبت فعلًا بعضها، وكان مؤلما للغاية، وأعتز بكثير من الملفات السينمائية، مثل ملف بعنوان «السينما لما تضحك» نُشر كملزمة مستقلة بالألوان.

عملت أيضًا في مطبخ المجلة، في الديسك المركزي، وأعتز جدًّا بموضوعٍ أعددته للنشر علي تسع صفحات عن «زلزال أكتوبر» 1992: أحضر لي الراحل إسماعيل منتصر عشرات الموضوعات والأخبار والقصص الإنسانية، وطلب صياغة موضوع واحد متصل، له عنوان واحد من كلمتين فقط هو «ساعات الكارثة».

كان تحديًا صعبًا، وخاصة أن الزلزال فاجأنا بعد أن انتهت الملزمة الأولي مادة وطباعة، وكان المطلوب أن نلحق بسرعة الملزمة الثانية، وهكذا بدأتُ كتابة ماراثونية لإعادة طبخ هذه المادة، بصورة مؤثرة وإنسانية، والحمد لله أن الموضوع حقق أصداء طيبة، ولم ينتبه أحد إلي أن الحكاية الطويلة علي تسع صفحات، ليست سوي عشرات الموضوعات المتناثرة.

ظلت مجلة أكتوبر حاضرة دومًا في الوسط الصحفي والثقافي، رغم تباين مستويات عصورها من الناحية الصحفية، وكانت - مثلًا- المجلة الأولي التي يهتم بها الأطباء، وحرص الأستاذ صلاح منتصر علي أن يكون هناك موضوع طبي أو علمي علي الأقل في كل عدد..

كما أن مسابقات الأصوات الجديدة التي نظمها الراحل محمد جلال، ظلت من أشهر المسابقات الغنائية، وخرجت منها أصوات كثيرة أشهرهم إيهاب توفيق، كما أن أبواب الحالات الإنسانية، ظلت علي الدوام واحدة من أبرز الأبواب الخدمية في الصحافة المصرية، وربما لا ينافسها في ذلك إلا فكرة «ليلة القدر» في مؤسسة أخبار اليوم، والتي كان يقف وراءها مصطفي أمين.

لا أجد في النهاية ما يصف علاقتي بالمجلة، صاحبة الفضل الأول علي حياتي المهنية، سوي أنها «علاقة قدريّة»، بدأتها كقارئ، ثم صرتُ كاتبًا محترفًا علي صفحاتها.

لولا مجلة أكتوبر ما كنت صحفيًّا، ولا استطعتُ تحمّل إحباطات جيلنا المهنية، ولولاها ما كنت ناقدًا سينمائيا. هذا فضلٌ سابغٌ لا أنساه أبدًا، وهذا دينٌ كبيرٌ يعجزني أن أردّه، مهما فعلت أو كتبت.

لولا مجلة أكتوبر أيضًا ما عرفت تلك الشخصيات الرائعة الذين صاروا أصدقاء العمر، والذين لا أستطيع أن أكتب كل أسمائهم، خوفًا من السهو والنسيان.

أن تمنحك مجلةٌ واحدة، وأن يعطيك مكانٌ واحد، أصدقاء وذاكرة وكتابة تعتز بها، فهذا معناه ببساطة أن مجلة أكتوبر كانت، وستبقي بالنسبة لي، حكاية العمر كله.

أضف تعليق