أشعر بغضب حقيقي عندما تكون عناصر الفيلم البصرية والشكلية رفيعة المستوى، بينما يبدو السيناريو ساذجا وضعيفا وغير مقنع، لأنك تضيع بذلك جهد عشرات المبدعين، وهذا فيلم إنتاج مشترك إيطالي مصري بعنوان " المعزة " من كتابة وإخراج إيلاريا بوريللي، التي تبدو مخرجة جيدة جدا، لديها عين رائعة، ومعها فريق عمل ممتاز، ولكنها يجب أن تبتعد فورا عن كتابة أعمالها، أو أي أعمال أخرى، لأن فكرتها عن الدراما ورسم الشخصيات في حالة بائسة حقا، وفكرتها عن الشرق عموما سطحية وعبيطة، ولا تتجاوز الجانب الفلكوري وحكايات المستشرقين.
لذلك جاءت تجربة فيلم المعزة ، الذى اشترك فيه ممثلون مصريون مثل سيد رجب و عمرو سعد و نيللى كريم وعارفة عبد الرسول والممثلة الصاعدة جيسيكا حسام الدين، متواضعة تماما، وبينما تحاول إيلاريا الدفاع عن أحوال الفتيات اللاتى تجبرن على الزواج فى سن صغيرة، والدفاع عن حق أهل الصحراء فى الاستفادة من خيراتهم، بعيدا عن الاحتكارات الرأسمالية، فإن ما رأيناه من دراما ضعيفة، أثار الضحكات بدلا من التعاطف، لأن الفن ليس فقط فيما تقول، ولكنه يتعلّق بالأساس بالطريقة التى تقول بها ما تريد.
مشكلات الكتابة كثيرة للغاية، ولكنى سأعطيك أولا فكرة مختصرة عن مسار الأحداث: نحن فى مكان ما فى الصحراء، قرية أطلقوا عليها اسم "زرزورة"، نرى الفتاة الصغيرة الذكية هادية (جيسيكا حسام الدين) بمريلة المدرسة، ترقص مع زميلاتها، ثم نرى والدها سالم ( عمرو سعد )، الذى يشرف على توزيع مياه النبع على أهل قريته، ويرفض تزويج ابنته من الشرير أبو هاشم (سيد رجب)، لأن سالم يريد لابنته أن تكمل تعليمها وتصبح مهندسة، وهو أيضا يفكر فى مشروع محلى لنقل المياه العذبة إلى المنازل، بينما نعرف أن أبو هاشم الشرير، متواطئ مع شركة أمريكية لاستغلال مياه النبع، الذى اكتشفه سالم، وإصرار أبو هاشم على الزواج من ابنة سالم هدفه حصول الشركة الأمريكية على مياه النبع، من أجل مصنعها الكائن فى الصحراء!
يختطف أبو هاشم هادية ويغتصبها ، ويقتل سالم، الذى حاول الانتقام لابنته، وبعد قتله يتزوج هادية فعلا، ويضمها إلى حريمه، وتحمل منه، وبينما يفترض أن تمكث معه حتى تضع مولودها، فإن هادية تخوض رحلة هروب أسطورية، بصحبة معزة حصلت عليها من عائلة أمريكية، من أجل البحث عن والدها، الذى تظن أنه على قيد الحياة، وعودته ستحرر القرية من سيطرة أبو هاشم والشركات التى تريد استغلال المياه العذبة!
الفيلم بأكمله بعد ذلك يتابع رحلة هادية مع المعزة، مع مطاردة لها من سيدة أمريكية مرتبطة بالمصنع، تلعب دورها الممثلة الشهيرة ميرا سورفينو، كما يطارد هادية أيضا أبو هاشم ورجاله، لاستعادتها، ولإجبارها على التوقيع على التنازل عن النبع، ولك أن تتخيل أن هادية التى تفقد حملها فى تلك المغامرة، والتى تعانى من هلاوس وتستدعى صوت وصورة أمها، بل وترى الأم فى تلك المعزة، ستنتصر فى النهاية، وستعيد النبع إلى أهل القرية!
لا يشير السيناريو إلى قرية أو بلد معينة، فالمقصود "التجريد الكامل" لصحراء شرقية ما، ولكن هذا التجريد يتعارض تماما مع قضية واقعية عن أحوال الفتيات فى مجتمعات بسيطة، وعن تزويجهن فى سن صغيرة، وعن استغلال العالم الرأسمالى للدول النامية، والحقيقة أن التجريد لم ينجح أصلا، فنحن نرى مثلا أماكن من سيوة، واللهجة خليط متنافر من اللهجة القاهرية، ومن اللهجة البدوية، ومن اللغة الإنجليزية، والطريف أن هادية نفسها تجيد الإنجليزية أيضا، بل وتتحدثها بلهجة أمريكية!
ولكن المشكلة الأكبر فى أن بناء الدراما كله، يعتمد على شخصيتين تفتقدان الإقناع وهما: أبو هاشم الذى يجسد صورة الشرير كما نراها فى الأفلام الهندية، والذى يبدو شخصية أحادية الجانب، ولك أن تتخيل هيئته وصوته بكليشيهات سيد رجب المعهودة، والشخصية الثانية هى هادية، التى تبدو فتاة سوبر حقا، لا أعرف كيف تخطت كل هذه الأهوال التى رأيناها؟ ولعل الفيلم نفسه كان أكثر استغرابا مما حدث، لأنه وصف نجاة هادية فى النهاية بأنها "معجزة"، ولم ينقذ هذه الشخصية المفبركة إلا أداء جيسيكا حسام الدين المتميز، إنها موهبة حقيقية واعدة جدا، وهى أفضل من فى الفيلم بلا جدال.يفترض أن تعيش هادية على لبن الماعز، بل وسنراها وهى تبيع الجبن المصنوع من العنزة، ولا نعرف كيف صنعته؟ ويفترض أن نصدق فتاة صغيرة حاملا تسبق مطارديها الذين يستقلون الموتوسيكلات والسيارات، وبينما نرى صحراء بلا نهاية فى كثير من المشاهد، ننتقل فجأة إلى أسواق وقرى، بل وتقع هادية فى يد عصابة لتزويج الفتيات الصغيرات من الأثرياء، ثم تهرب من جديد إلى الصحراء، وبينما تصاب بهلوسة كاملة بعد فقدان جنينها ودفنه، يتم إنقاذها بمصادفة قدرية، بينما يقتل الأشرار بعضهم، ويعود النبع إلى أصحابه، وتعود هادية لترقص مع زملاء المدرسة!
لا تعرف المخرجة شيئا على الحياة البدوية، ولا تدرك أن الاغتصاب لديهم جريمة عظمى، ومن المستحيل تزويج الفتاة المغتصبة ممن اغتصبها، ويدهشنا كثيرا فى الفيلم أن هذه الصبية يمكن أن توقع على أوراق قانونية، وأن كل ذلك من أجل نبع مياه يوجد مثله فى أماكن كثيرة فى الصحراء، اللهم إلا لو كانت مياه هذه النبع مكتملة الفيتامينات، وتشفى من كل الأمراض!
كل الشخصيات كتبت بسطحية وسذاجة، وحتى العلاقة بين هادية والمعزة، والتى كان يمكن أن تصنع خطا شاعريا جميلا، لأن المعزة مهمشة أيضا مثل هادية، حتى هذ العلاقة صارت كوميدية تماما، عندما افترضت المخرجة أن روح الأم قد حلّت فى المعزة، بل وتخيلت هادية أن المعزة هى أمها، وتبادلت معا حوارا أضحكنا، وأفسد تماما هذه العلاقة، وفى مشهد يحسدهم عليه شارلى شابلن، تريد هادية أن تأكل المعزة، لأنها على وشك الموت جوعا، ولكننا نسمع صوت الأم/المعزة، وهى تذكرها هادية بأن المعزة هى أمها، وأنها قليلة التربية، لأنها فكرت فى أن تأكل أمها!!
أشياء كثيرة عبيطة على هذا النحو تتناقض تماما مع عناصر فنية رفيعة المستوى خصوصا التصوير المذهل فى الصحراء صباحا ومساء، والتكوينات التى جعلت كل لقطة تقريبا مثل لوحة فنية، ولكن كل ذلك أفسدته الكتابة، وأفسده التشخيص المتواضع، خصوصا مع مبالغات ميرا سورفينيو، وكليشيهات سيد رجب، والمرور العابر لعمرو سعد، وفتحى عبد الوهاب الذى ظهر فى مشهدين، و نيللى كريم التى ظهرت فى صورة شبح فى الصحراء فأطلقت مزيدا من الضحكات، ولولا أداء جيسيكا وحضورها، وقدرتها على تقديم حالات هادية المختلفة والمعقدة، وتأرجحها ما بين الطفلة والمرأة المكتملة، لما كان هناك فى أداء الممثلين ما يستحق المشاهدة.
التقيت شابين مصريين اشتركا فى إنتاج الفيلم، وكانا فى قمة التهذيب وهما يستمعان إلى انتقاداتى الحادة، ولكنى أشدت أيضا بتنفيذهما الإنتاجى الممتاز للمشاهد، وبالعناصر التقنية، وبالأزياء، وبالديكورات التى صممها مهندس الديكور المصرى أحمد فايز، وباختيار مواقع التصوير، وقالا لى إن الفيلم حقق نجاحا كبيرا فى الخارج، وحصد عشرات الجوائز.
تمنيت للشابين التوفيق، ولكنى حرصت على ضرورة أن يستفيدا من التجربة، وأن يهتما منذ البداية بالسيناريو، بصرف النظر عن النجوم والنجمات، هذا هو الطريق الأهم للنجاح.
ليتهما يواصلان المشوار فى تجارب أفضل، وأكثر إتقانا.