لا يزال لدى تقليد أستخدمه كثيرا فى مجال النقد ومشاهدة الأفلام، وهو الاحتفاظ بمفكرة صغيرة جدا، أكتب فيها الأسماء التى تلفت نظرى فى مجال صناعة الأفلام ، حتى لو كان مستوى الفيلم نفسه ضعيفا ككل، وأعتبر هذه الأسماء المكتوبة فى مفكرتى من المواهب الواعدة، الجديرة بمتابعة أعمالها سواء فى السينما أو التليفزيون أو المسرح ، وقد أفادنى ذلك كثيرا فى متابعة مواهب حقيقية، وإن خذلتنى تجارب البعض فى أحيان أخرى.
فى تلك المفكرة، وضعت اسم محمود زهران كمؤلف لفيلمين مختلفين جدا عن السائد، هما " ليلة قمر 14"، و"أنا لحبيبي"، كان من الواضح أنه يريد أن يقدم أفلاما غير تقليدية، وأسعدنى ذلك رغم الملاحظات على تجاربه، وكتبت أيضا اسم المخرج الشاب عمرو صلاح، أعجبنى حسه الكوميدى سواء فى فيلم "قلب أمه"، أو فى مسلسل " 1000 حمد لله ع السلامة"، وفى المفكرة كذلك كتبت اسم أسماء أبو اليزيد بعد مسلسل "هذا المساء"، واسم أحمد حاتم بعد فيلمه الأول "أوقات فراغ"، وكانا حقا من المواهب الواعدة اللافتة للغاية.
لذلك ذهبت لمشاهدة فيلم "عاشق" من كتابة محمود زهران وإخراج عمرو صلاح، وبطولة أسماء وحاتم، وكفة التفاؤل أرجح، لأن الفيلم قد سيكون محصلة هذه المواهب، التى لاشك، أنها قد صارت نظريا أكثر نضجا، وقد شجعنى أكثر تريلر الفيلم، الذى ينبئ عن عمل مشوق، فيه عناصر فنية جيدة أخرى مثل مدير التصوير مصطفى فهمي، والمونتيرة رانيا المنتصر بالله، كما أن الفيلم من أعمال أحمد السبكى التى تختلف عما اشتهرت به هذا المنتج مع شقيقه فى سالف الأيام، أى أنها محاولة للتغيير، وتقديم أفلام مختلفة.
ولكن تجربة "العاشق" جاءت مع الأسف محبطة، ومليئة بالعجائب والغرائب، وحافلة بالغموض والتشويق المجانى والوهمي، الذى لا يتأسس على العناية بالتفاصيل، سد الثغرات، والبناء الجيد للشخصيات، ورغم الجهد الكبير المبذول، والعناية بالصورة ومكوناتها، إيقاع الفيلم المتدفق والمناسب لموضوعه، إلا أن هذه النوعية يمكن أن تفسدها تفصيلة بسيطة، وفيلمنا مليء بالثغرات فى كتابته، ولا أعرف بالضبط كيف مرت هذه الملاحظات على الجميع قبل التصوير؟!!
يمكن تصنيف "عاشق" على أنه فيلم دراما تشويقية نفسية، والمؤسف أن الجانبين ( التشويقى والنفسي)، لم يتم دراستهما بشكل متقن، فمنذ المشاهد الأولى ستدرك أن هناك شيئا مصطنعا تماما فى تلك العلاقة بين طبيب علاج الإدمان مالك كريم (أحمد حاتم)، مريضته فريدة سالم (أسماء أبو اليزيد)، أن شخصية فريدة كمدمنة لها تاريخ أسرى مشين، وشخصية مالك كطبيب شاب وعاشق لها، فيهما تناقضات غير مقنعة، سواء فى الكتابة أو فى الأداء التمثيلي.
لك أن تعرف مثلا أن فريدة تقول: إنها رأت والدها يخون أمها، وتسبب ذلك فى قتل الأب للأم، ثم تقول: إنها قتلت زميلا لها بحقنة مخدر، وتسببت فى وفاة شخص آخر، ورغم كل ذلك لم تعاقب على الإطلاق، ولم تترك فيها هذه الكوارث أى تأثير سوى اللجوء للمخدر!
ولك أن تعرف أن الطبيب مالك يتمسك بها، رغم كل تلك الاعترافات، لأنه يحبها، بل ويتزوجها رغم عودتها للإدمان بعد علاجها ثم يخطبها من والدها سالم (محسن محيى الدين)، وهو بالمناسبة تاجر آثار أيضا، يتم القبض عليه وسجنه فى قضية مريبة!!
من حق زهران أن يتخيل شخصياته كما يريد، ولكن هذه المعلومات المتناقضة، وتلك الجرعة من المبالغات، لا تجعلنا نصدق هذه الشخصيات، ولا تلك العلاقة بين مالك وفريدة، التى يفترض أن ينهض عليها بناء الفيلم كله، وصولا الى مفاجأة النهاية الأكثر غرابة.
يضاف إلى ذلك مشكلة واضحة جدا فى أداء أسماء وحاتم، يسأل عنها المخرج عمرو صلاح، فلا هذه الفتاة ذات الوجه الصبوح والعيون اللامعة يمكن أن تكون مدمنة سابقة، ولا حالية، ولا هى يمكن أن تكون قاتلة أو معقدة نفسيا، فلا بد من ملامح منهكة، وعيون ذابلة منطفئة، خاصة أننا سنراها تعود من جديد إلى المخدرات، ولا هذا الشاب صاحب الملامح الجامدة، والنظرات الثابتة، والصوت المحايد، يمكن أن يكون عاشقا حقيقيا، أطاح الحب بعقله، وجعله يتغاضى عن كل الكوارث الأسرية، سواء فى ماضى حبيبته فريدة أو فى ماضى حماه سالم، تاجر الآثار، الذى كان يخون بدوره والدة فريدة !!
هذه علاقة مصطنعة منذ البداية، وستؤكد مفاجأة النهاية ذلك، ولكن اللعبة فى أن نصدق أن هذه الحكاية حقيقية وليس العكس، والأسوأ أن لعبة كوابيس وهلاوس فريدة والأصوات التى تسمعها، والمزج بين أحلامها وواقعها، وهى أفضل أجزاء الفيلم على الإطلاق، سرعان ما تتطور إلى مهزلة، بإصرار والد فريدة على إحضار شيخ (سامى مغاوري)، لإخراج جان عاشق من جسد ابنته، وهو تطوير أخذنا إلى عالم مسلسل المداح ، الى الفيلم الذى أطلق هذه الموجة من أفلام الجان، وهو فيلم "الفيل الأزرق"، والحقيقة أن تيمة موسيقية لسارى هانى مشابهة لموسيقى "الفيل الأزرق"، جعلتنا فعلا فى عالم الجان، بعيدا عن الحبكة النفسية الأصلية. وأضافت مزيدا من التشويق الوهمي، بعد كشف الفيلم فى المشاهد الأخيرة عن سر هلاوس فريدة، وعن هشاشة علاقتها مع مالك.
مع هذا الكشف عن السر، تتضح أكبر ثغرات الكتابة على الإطلاق، إذ تظهر حكاية جديدة عن شرور ماضى فريدة، ليس هذا فقط، تبدو فكرة الانتقام من هذه الشخصية المدمنة أمرا عبثيا تماما، فما هو لزوم تدمير امرأة مدمنة أصلا مصممة على تدمير نفسها والعودة إلى الإدمان؟ أيّ عبث وأيّ منطق فى علاج مدمنة والزواج منها وإدخالها مستشفى المجانين؟ أى معنى لأن يقوم طبيب شاب مرموق وناجح بالاستقالة والتفرغ لمدمنة سابقة لا تحتاج لمن يدمرها لأنها ببساطة قنبلة على وشك الانفجار؟
إننا فى الحقيقة أمام دراما على طريقة "ودنك منين يا جحا"، اللهم إلا لو كان الفيلم ضد الإدمان، وهو أمر واضح طبعا، ولكنه مع الانتقام، وهو أمر غير مقصود، ولكنه تحقق بسبب تناقضات السيناريو، لأن فريدة لا تعاقب على جرائم الماضي، ومالك لن يعاقب على تدمير مريضته، التى أؤتمن على علاجها!!!
وهكذا تؤدى تناقضات الكتابة، إلى فوضى كاملة فى المعنى، وفى أداء الممثلين، رغم الإتقان الشكلى لأجواء التشويق، بالظل والضوء، ومؤثرات الصوت والصورة، وبالمونتاج والموسيقى أيضا، أى أننا "شكليا فقط" أمام فيلم تشويقي، ولكنك لو فكرت فيما تراه، فلن تصدق شيئا، ولن ترى سوى لعبة مجانية للحصول على اهتمامك، سرعان ما تتبدد نهائيا، مع مشاهد النهاية.
ما زلت أثق فى أن هذه الأسماء موهوبة، ولكن عليها أن تهتم بالسيناريو وضبط علاقاته مثلما تهتم بالعناصر الأخرى، وخصوصا مع تلك النوعية من الأفلام، فإذا لم تؤسس الحبكة على شخصيات مرسومة بشكل جيد، وعلى تفصيلات متقنة، لن تؤثر أبدا فى المتفرج، ولن يتذكر منها شيئا، وستكون أقرب إلى لعبة "صلّح"، وهزار "عليك واحد"، الذى لا يمارس إلا على سبيل التسلية، وشغل أوقات الفراغ.