-طبيعي للغاية حين تتراجع جودة منتج ما أن يقوم العاملون عليه بمراجعة أنفسهم ووضع أيديهم على مواضع الخلل ومن ثم معالجة أوجه القصور، وفي مجال الإعلام ، لابد من الإقرار بأن منتجنا الوطني لم يعد في مكانته التي كان عليها، ولم نعد في مقاعد المقدمة، رغم كوننا في بلد قدرها أن تكون في القلب، والتفاعل مع الإقليم ليس اختيارًا أمامها.
-وفي سلسلة مقالات متتابعة، سأحاول تقديم خلاصة تجربة استمرت ثلاثين عامًا في أروقة الإعلام المسموع والمرئي والمطبوع، آملًا أن تكون في مجملها، إضافة لجهد محاولات التطوير الجارية في هذا المجال.
-أول أوجه المراجعة، أدرك أنه سيثير كثيرًا من النقد وربما الهجوم من إعلاميين كبار ومن زملاء أيضًا، ولكن الأمانة تقتضي البوح بما أرى مهما كانت ردود الفعل المتوقعة ممن سيقرأون هذه الكلمات.
-أول عناوين هذه السلسلة يتعلق ب "الرواد"، فهذا المفهوم التقيناه مع سنوات عملنا الأولى في منتصف تسعينيات القرن العشرين، والتقينا كثيرًا ممن ينتمون إلى جيل الرواد، ويكفي أن نذكر منهم الأساتذة أحمد سعيد وأمين بسيوني وآمال فهمي ونادية صالح ووجدي الحكيم ونجوى أبو النجا وكامل البيطار و فاروق شوشة ومن بعدهم حمدي الكنيسي ومحمد مرعي ومحمد فهيم وأمينة صبري ونيبلة مكاوي وغيرهم الكثير.
-ملاحظاتي في أمر أساتذتنا الرواد، بعضها كان في وقت مبكر للغاية، وبعضها تكون من خلال ممارسة العمل فعليًا، ومما يمكن البوح به التالي:-
*أن الريادة لم تكن نتاجًا للكفاءة التي ميزتهم فقط، وإنما قبل هذا، بالتوقيت الذي احترفوا فيه المهنة، ففي هذا التوقيت اجتمعت لمصر الأسبقية، وقلت فيه البدائل، ومن ثم كانت النجومية أمرًا أقرب إلى الحتمي، أيًا كان مستوى العاملين، وليس هذا تقليلًا من شأن أساتذتنا، ولكنها الحقيقة.
*أن أساتذتنا، كانوا كجيلنا تمامًا، جزءًا من مشروع السلطة ومن يحكم، واعتلى فيهم من كان أقرب إلى السلطة، وتوارى منهم من لم يكن معها، وحتى أولئك الذين اتخذوا موقفًا قي عام 1971، كانوا جزءًا من سلطة سابقة، ولم يكن سهلًا التغير عن توجهات تلك القيادة الكاريزمية، ومن ثم فليس لاساتذتنا الإكثار من توجيه اللوم إلى إعلاميي هذا الزمان، واعتبارهم متماهين مع السلطة وطروحاتها، بل من النادر ألا تجد من أقطاب الرواد شيئًا بخلاف اللوم والنقد وأحيانًا الاتهامات والتقليل من شأن الكوادر الإعلامية الحالية.
*الأمر الأكثر أهمية في تقديري، والذي ربما يثير كثيرًا من الصخب، أن كثيرًا من أساتذتنا الرواد هم شركاء في الانحدار بتأثير إعلامنا الوطني إلى المستوى الذي بلغه، فحين كانوا في مقاعد التأثير والقرار، فتحوا الباب أمام توريث مقاعد الإعلام و الصحافة لأجيال من عائلاتهم بغض النظر عن درجة الاستعداد والكفاءة، وهذا أمر لا يتطلب بحثًا علميًا لإثباته، ويكفي مراجع إعلان وفاة في صحيفة ما أو على لوحة إعلانات أي من مؤسساتنا الإعلامية والصحفية.
-وهنا أذكر لأستاذنا الراحل فاروق شوشة موقفًا، جاء في صالح إذاعتنا وربما مختلف وسائل إعلامنا، وتفاصيل هذا الموقف يعلمها أهل المهنة، حين وضع معايير في شأن اختيار المذيعين ومقدمي البرامج والمعدين المتقدمين للالتحاق بالإذاعة عام 1995، فجدد بهذا الجيل دماء المؤسسات الإعلامية المسموعة والمرئية، دون أن يغلق الباب أمام بعض المجاملات.
-أذكرهنا أن العائلة الواحدة يوزع أبناؤها بين مختلف الإذاعات والقنوات والمؤسسات الصحفية وكأنما يخشون العمل في مكان واحد، ليس خوفًا من مشاعر الضيق لدى بقية أفراد المجتمع، ولكن قلقًا من أن تصيبهم عين الحسد.
-أذكر كذلك أن أبناء رائد كبير نوعوا في اسمهم الثاني حتى لا يعرف المجتمع مبكرًا أنهم أشقاء، وأن المجال عرف غيابًا للطامحين إلى العمل الإعلامي المؤهلين له موهبًة ودراسًة، وتفوقًا، وطموحًا، لصالح غلبة الوافدين من مشارب لا صلة لها بالمجال، بل إن الأكثرية منهم لم يكن هذا المجال في أولوياتهم من الأساس.
-لا نلوم أساتذتنان بقدر ما نتمنى أن يقدروا جودة الظرف الذي عملوا فيه، وصعوبة و لنقل تنافسية الظرف الذي نعمل نحن فيه، وألا يأمنوا كثيرًا لفكرة أنهم يجسدون الريادة فيما لاحقوهم جسدوا الانهيار، فهذا الانهيار جذوره عندكم وثماره عندنا، وأول طريق الإصلاح الإقرار بالخطأ والتعلم منه، ومن ثم التعاون من أجل التغيير.