هذا الفيلم لافت للاهتمام، ليس فقط بطابعه الخاص، الذي يقدم كوميديا الموقف وسوء التفاهم بطريقة أكثر إحكاما مما تعودنا، ولكن أيضا باحتمال وجود قراءة اجتماعية عن فوضي الحياة المصرية، وإن كانت هذه القراءة غائمة وتائهة وسط صخب المواقف، التي دفع بها شادي الرملي ، مخرج الفيلم والمشارك في تأليفه مع حسين نيازي، إلي حدها الأقصي، وبصورة كاريكاتورية تماما. ولكن ظلت التجربة غريبة وجريئة أيضًا، لأن المكان، الفيلم نفسه بعنوان المكان " بنسيون دلال "، يتحول إلي كرنفال بلا ضابط ولا رابط، وصورة الأب، صاحب البنسيون، ورب الأسرة، لا تسر ولا تضبط شيئا، بل لعله سبب الكارثة، والحكاية بأكملها عن "مسخرة عائلية كاملة"، والأخوة كلهم شخصيات عجيبة حادة، ولا يتعاطف الفيلم سوي مع الأخ مجاهد، الأقرب إلي الغفلة والطيبة، التي تسبب المصائب أيضا.
هل قصد المخرج أن يكون بنسيون دلال في قلب القاهرة، وعلي النيل، فينتهي الفيلم بالابتعاد عن الفندق، ونري العاصمة، في علاقة بصرية تربط بين المكان الضيق، و المكان الأوسع؟ لا أعرف بالضبط، ولكن هذه العينة من الفوضي العائلية والمكانية الشاملة، يمكن فعلا أن تكون مجازا لفوضي مجتمعية نلمس تجلياتها في كل مكان، وتظل حكاية الأسرة، في كل الأحوال غريبة ومثيرة للاهتمام، وربما صادمة أيضا، وبشكل مقصود.
معظم أحداث الفيلم في هذا البنسيون، الذي يملكه سيد الجدع ( بيومي فؤاد )، وهو أبعد ما يكون عن الجدعنة والتعقل، تزوج أكثر من مرة، وأنجب أولادا يعيشون معه في الفندق، ولكنه جعلهم يقيمون علي السطوح، وكل واحد منهم مختلف عن الآخر إلي حد التناقض، وهم غير أشقاء، ويطمعون في الحصول علي نصيبهم من الفندق، بينما يفكر سيد نفسه في بيع الفندق إلي مستثمرين، ويسافر إلي شرم الشيخ لهذا الغرض.
مع سفر الأب وغيابه، يبدأ الأبناء في استغلال البنسيون كل بطريقته: الابن المنحرف رجب يخطط لسرقة البنك المجاور للبنسيون، والابن عصام المتشدد دينيا يحضر زملاء الجماعة الإرهابية للإقامة المؤقتة في الفندق، والابنة عايدة، الناشطة النسوية، تقرر تنظيم مؤتمر في البنسيون لمكافحة التحرش، والابن عادل هاوي الموسيقي، يقرر تنظيم حفلة، واستضافة أحد المنتجين، لكي يصنع له ألبوما، والابن الطيب مجاهد، الذي يحبه الأب ويعتبره موضع ثقته، يريد أن يستغل البدروم في إقامة حفلة موسيقية أيضا، ليربح بعض المال.
مع تداخل هذه المسارات، والتقاط المفارقات، وباستثناء انتقالات قليلة للأب الغارق بدوره في الفرفشة مع الجميلات في شرم الشيخ، تتشكل معالم فوضي عارمة، خاصة مع انضمام شخصيات أخري، مثل ألبير موظف البنك، وزوجته ماتيلدا، والموظف شريك رجب في "السطو" ثم ظهور شوقي، وهو رجل كبير في السن يريد قضاء ليلة مع فتاة ليل، ولكن صحته لا تسمح بذلك، ثم يظهر رجال البوليس في الربع الأخير من الفيلم، بعد وفاة شوقي، ويكتشفون كارثة هذا البنسيون، الذي تعاطي ساكنوه مشروبات مضاف إليها مواد منشطة، فأصبحوا يرقصون في هوس، وكأنهم أصابهم مس من الجنون.
إلي حد كبير كانت معظم المفارقات والخطوط مضحكة، وكان أضعفها خط الابن عادل وحبيبته، وأكثرها صخبا وإضحاكا، خط رجب بلهجته البورسعيدية، وبأداء متميز من عمر مصطفي متولي، وحواراته البلهاء طوال الفيلم مع شاب يحفر منذ شهور، للتسلل إلي البنك، ويلعب دوره إبرام سمير، وكذلك خط علاقة رجب بألبير، ومأزق ألبير في الفندق، وعلاقته هو وزوجته مع عصام وجماعته السلفية، هذان الخطأن يحملان الأحداث، ويفجران الضحكات، وخصوصا مع ادعاء ألبير وزوجته ماتيلدا، بأنهما مسلمان، ومع تكليف ألبير بالذهاب إلي تاجر للمخدرات، حتي يجلب حبوبا، يتم استخدامها لتنويم الشباب، الذين جاءوا لحضور الحفلة، لحضور مؤتمر مكافحة التحرش، في الوقت، الذي يبدو فيه مجاهد، الابن الطيب ساذجا ومغفلا وضيق الأفق، ولا يعرف مدي خطورة ما يدور في البنسيون.
إلي حد كبير نجح السيناريو في استغلال أماكن البنسيون، ونجح مونتاج علي خيري في تحقيق انتقالات سلسة، وصولا إلي ذروة أخيرة، بوجود البوليس، وبحضور الأب من شرم الشيخ، والحقيقة أن خروج المحتفلين من البدروم وهم يرقصون في هوس هي النهاية الأفضل، التي تلخص المسخرة كاملة، وإن كان إنهاء الفيلم من جديد بالابن الطيب مجاهد، وصوت نصائح الأب له، يغلق الدائرة، لأنها كانت بداية الفيلم أيضا، ثم تأتي لقطة مغادرة الكاميرا للبنسيون والصعود إلي فضاء القاهرة، وربما فضاء الوطن كله، لتثير التأمل بعد هذه الرحلة الغريبة.
شادي الرملي يمتلك حسا ساخرا قويا، ويعرف موطن المفارقة، وطرق تفجير الضحك، واختياراته للممثلين جيدة بشكل عام، وتألق منهم، كما ذكرت، عمر مصطفي متولي في شخصية رجب باستاردو، وإبرام سمير في شخصية اللص الجائع، وأمجد الحجار في شخصية السلفي عصام، ومحمود حافظ في دور زعيم التنظيم الإرهابي، الذي يرفع شعار "الضرورات تبيح المحظورات"، وميلاد ميشيل في دور ألبير، شريك وضحية رحلة السطو علي البنك المجاور للبنسيون، ووليد فواز في دور الضابط، والمدهشة إسراء رخا في دور الناشطة النسوية عايدة، ونسرين أمين في شخصية غريبة كزعيمة لعصابة مخدرات، وطاهر أبو ليلة في شخصية مجاهد المغفل، ومحمد رضوان في شخصية شوقي، بمشاهده القليلة، ولكن الشخصية استخدمت بشكل جيد في دفع الأحداث إلي النهاية.
لكن الأمر الذي يصل إليك، وإن كان بطريقة ضبابية، أن الحكاية بأكملها عن تناقضات المجتمع كله، وليست عن تناقضات عائلة "سيد الجدع" وحدها، أو كأن تناقضات عامة قد وجدت طريقها إلي "بنسيون دلال"، بالذات مع غياب الأب، وإن كان وجوده أيضا لم يمنع أن يتضارب الأبناء، وهو أيضا لم يوفر لهم ظروفا جيدة، ولم يبذل أي جهد في تربيتهم، وكان يعد سرا لبيع البنسيون.
لا يفوتني أن شادي وجه تحية إلي فيلم والده لينين الرملي "الإرهابي"، بادعاء المتشددين التهتك لكي يضللوا رجال البوليس، وهو أحد مشاهد عادل إمام الشهيرة في "الإرهابي"، التي وجدت هنا تنويعة جديدة مماثلة.
أظن أن هذا المخرج يمكنه أن يقدم بصمة مختلفة في مجال الكوميديا، وأظنه يمكنه أن ينفتح أكثر علي الكوميديا الاجتماعية ، التي تفتقدها السينما المصرية، إلا في تجارب معدودة، وعلي فترات طويلة متباعدة.