حامل المسك... (9) وإذا كانت النفوس كبارًا ...
خطَّان متوازيان متصارعان لا يفترقان، يحكمان طبيعة النفس البشرية ويُوجِّهان مواقفها وأحداث حياتها، والناس يختلفون بين هذين الخطَّيْن، منهم من يختار أحدهما ومنهم من يختار الآخر، ومنهم من يجمع بينهما حسب المواقف والأحوال.
لا تخلو دوافع أفعال الخلق ومواقفهم من إحدى اثنتين، إما أن يكون الدافع هو القيمة النبيلة والمثل الأعلى والهدف الأسمى، وإما أن يكون الدافع هو المنفعة القريبة واللذة المؤقتة والغنيمة السهلة.
والدَّافعان على الرغم من تباينهما إلا أنهما قد يمتزجان في نفسٍ واحدة، فتجد المرء يلجأ لأحدهما لتحقيق الآخر، أو تغلب القيمة النبيلة على نفسه في مرحلة من مراحل عمره أو موقف من مواقف حياته، وتغلب المنفعة في مرحلة أخرى أو موقف مغاير.
وأصحاب الأهداف الكبرى في الحياة يُحسنون استغلال هذين الرافدين لا في أنفسهم ذاتهم ولكن في نفوس غيرهم.
أصحاب الغايات الكبرى يعرفون كيف يكسبون الناس وفقا لما يغلب على نفوسهم من الرافدين سواء القيمة العليا أو المنفعة العاجلة.
وقد يكون مستساغًا من الوجهة العقلية أن يلجأ أصحاب الأهداف الكبرى إلى كسب ذوي الهمم العالية بما يسكن في قلوبهم من اختيار الإيثار على الأثرة والانحياز إلى غايات الروح ضد مطالب الجسد.
ولكن تفنيد هذا الظن يأتي من الله تبارك وتعالى الذي راعى في خلقه اشتمالهم على الرافدَيْن المُتبَايِنَيْن بما جبلهم عليه من اشتمال النفس الواحدة على حب المنفعة والانقياد للقيمة، قال تعالى: (ونَفْسٍ وَمَاْ سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا)
إن النفس الواحدة تشتمل على الفجور والتقوى وتجمع بين الأثرة والإيثار وتتطلع إلى الثريا وتغوص في الثرى.
ولعل هذا هو ما يفسر جَعْلَ الله تعالى صنفا من أصناف مستحقي الزكاة يحمل اسم (المؤلفة قلوبهم) فلا شك أن الله غنيٌّ عن عباده جميعًا صالحهم وطالحهم، وبَرِّهِم وفاجرهم، ولكنه من رحمته لم يغلق باب فضله في وجه أولئك الذين لا تأتلف قلوبهم إلا بالعطاء المادي. فسوَّغ سبحانه إعطاءهم من الزكاة حتى ينساقوا إلى حظيرة الإيمان.
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن صفوان بن أمية يحب المال فيعطيه واديا من الغنم حتى يرضى ويدخل في الإسلام فيرضى ويدخل في الإسلام.
ويعلم صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان رجلٌ يحب الفخر فيقول يوم فتح مكة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
ومن ناحيةٍ أخرى يعلم من الأنصار الإيمان الدائم واليقين الصادق فلا يعطيهم شيئا من غنائم حُنَيْن على الرغم من حسن بلائهم وجميل تضحياتهم ويقول لهم قولته الخالدة: " ألا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله في رحالكم".
ويقول لهم: " أوجدتم أن أعطيت الناس لعاعة من الدنيا ووكلتكم إلى إيمانكم".
أما عن أولئك الذين لا يجود الزمان بهم إلا قليلا فهم الذين يبيعون عاجلهم بالآجل لهم عند ربهم ويُغَلِّبُون سمو الأرواح على انحطاط الأبدان، ولذة العطاء على شهوة الأخذ والاقتناء.
أولئك هم الأشراف.... الذين ينتصر حقهم الضعيف الخجول الرقيق على باطل غيرهم القوي المتبجح غليظ القلب.
أولئك هم الأشراف..... الذين يتسامون حين تفشو الوضاعة....
أولئك هم الأشراف...... الذين يَثْبُتُون حين يَعُمُّ التَّذَبْذُب....
أولئك هم الأشراف....الذين يتمسكون بالإخلاص والوفاء حين يعم الغدر والخيانة.
أولئك هم الأشراف... الذين يرفعون راية العزة والإباء حين يسكن غيرهم إلى الخنوع والانبطاح ومداهنة الأعداء.
أولئك هم الأكياس... الذين يفوزون بشرف الدنيا وكرامة الآخرة.
أولئك هم الذين تفنى أجسادهم ..... في سبيل رفعة نفوسهم
أولئك هم الذين قال الله تعالى فيهم: (..... فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ علَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَاْ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم) سورة المائدة: 54
أولئك هم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: " لا تزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتِي ظَاهِرِينَ علَى الحقِّ لا يَضرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُم حتَّى يأتيَ أمْرُ اللهِ وهُمْ كذلك"
أولئك هم كبار النفوس الذي قال أبو الطيب المتنبي فيهم:
وإِذَاْ كانتِ النُّفُوسُ كِبارًا تَعِبَتْ فِي مُرادِهَا الأجسامُ