أحلام البنات في مجتمع الرجال

أحلام البنات في مجتمع الرجالمحمود عبد الشكور

الرأى17-11-2024 | 14:54

يحقق " فيلم رفعتْ عيني للسما " للثنائي ندى رياض وأيمن الأمير، الذي فاز بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي في مهرجان كان 2024، نجاحه الفني من أكثر من زاوية، فهو يقدم واقع فتيات الصعيد في قرية البرشا بملوي محافظة المنيا، ممتزجا بأحلامهن في مجالات الغناء والمسرح والحكي، وهو يؤثر ثانيا في مشاهده عبر تداخل محسوب بين مشاهد عفوية، وأخرى يتم ترتيب تجسيدها، وفي بناء واحد، فكأن الفيلم الذي يحكي عن أحلام البنات، يحقق لهن أحلامهن في التمثيل في نفس الوقت، والفيلم ثالثا يلمس قضايا مهمة عن نظرة مجتمع الرجال الشرقي للمرأة وتهميشها، وعدم الاعتبار لمشاعرها، وخضوعها لسلطة الرجل، فكأن الحكاية عن النساء أيضا، وليست فقط عن شخصياته من فرقة بانوراما البرشا المسرحية ، والفيلم أخيرا يوظف وبنجاح الغناء والموسيقى في إطار سرده المتدفق، وبنائه المتماسك، دون تنافر أو إدعاء.

رأيت في الفيلم تحية حميمة ومؤثرة لأشياء كثيرة" لبنات الصعيد، حفيدات إيزيس، للبساطة وللفطرة النقية، ولصدقهن وجرأتهن في المغامرة، وتحية أيضا للفتاة المصرية عموما، وللفن الذي يتعرض لهجمة شرسة، ولكن الفن لدى البنات هو حياة كاملة ووسيلة للتعبير، وطريقة لمواجهة القهر والظلم، وعنوان على الحلم والطموح، والخروج من المكان، إلى سماء أرحب، وأكثر اتساعا.
خلال عامين من العمل مع فتيات قرية البرشا وأحلامهن الفنية، تبلورت خطوط الحكاية، لكن لابد من التنويه أولا بأن الطابع التسجيلي العام للفيلم، لم يمنع من تقديم مشاهد متخيلة، أو مشاهد أعيد تمثيلها، هكذا يمكن أن أفسر مشاهد مثل ظهور ثعبان للفتاة هايدي، أو رؤية الفتاة ماجدة لحريق هائل، بعد زواج صديقتها مونيكا، وهكذا يمكن مثلا قراءة لقاء هايدي مع خطيبها كيرلس، وإصراره على أن تحذف خطيبته هايدي كل أرقام زميلاتها في الفرقة المسرحية، أو مشهد مثل مناقشة والد هايدي لها حول تركها للفرقة المسرحية، إذ يبدو لي أنها مشاهد أعيد خلقها، وتركت فيها مساحة للارتجال، ولكنها أدمجت ببراعة في المشاهد التسجيلية، وهذا مفهوم ناضج للسرد، لأن الحدود بين التسجيلي، وكل الأنواع السينمائية الأخري قد تلاشت، ولأن الفيلم التسجيلي يعيد اكتشاف الدراما، ولكن عبر مادة الواقع وشخصياته.
لابد أيضا من الإشارة إلى أن اختيار فتيات مسيحيات، ومجتمع مسيحي، مرتبط فقط بتجربة الفرقة المسرحية، ولكن هذا المجتمع لا يختلف على الإطلاق عن المجتمع المسلم، فالمجتمع الصعيدي واحد في عاداته وتقاليده، بل يمكن القول إن المجتمعات الذكورية الشرقية واحدة في نظرتها للمرأة، والفيلم يؤكد هذا بوضوح، حتى مع التركيز على مجتمع صعيدي مسيحي.
لدينا في الفيلم خمس فتيات من فرقة بانوراما البرشا هن: ماجدة ومونيكا وهايدي ومريم ومارينا، وقد تمنيت أن نرى خمس قصص متكاملة لهن، ولكن الفيلم اختار أن يركز فقط على ثلاث بطلات: ماجدة، ومن الواضح أنها صاحبة فكرة الفرقة، ومنظمة عروضها، ومسئولة التدريب، نراها وهي تبيع في محل صغير لأسرتها ولكن حلمها الوحيد هو أن تلتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ونراها في المشاهد الأخيرة، وقد قررت السفر إلى القاهرة، لتقديم أوراقها، دون أن نعرف نتيجة ذلك.
الشخصية الثانية هي مونيكا، التي تعشق الغناء، رغم أنها تعرضت للتنمر لأن صوتها قريب للرجال، ولكن مونيكا ستتزوج وتنجب طفلا، مما يجعل حلمها الجديد منحصرا في حياتها العائلية.
والشخصية الثالثة هي هايدي، التي تتم خطبتها إلى شاب اسمه كيرلس، ترتاح إليه، ويحبها هو أيضا، ولكنه يعترض بشدة على انتمائها لفرقة مسرحية، فترضخ لرأيه، لكي تحافظ على حياتها القادمة معه.
يبتعد الفيلم عن التنميط، فهناك مثلا كيرلس الخطيب المسيطر على هايدي، وهناك شقيق ماجدة الذي يسخر من هوايتها للتمثيل المسرحي، ولكن زوج مونيكا يتفهم طموح مونيكا في الغناء، ووالد هايدي يبدو أيضا متفتحا، ويستشيرها قبل الموافقة على العريس، ويتحدث عن أهمية الحب بين المتزوجين، بل إنه يراجع ابنته في قرارها بأن تترك الفرقة المسرحية، ويرفض سيطرة خطيب ابنته على قرارها بترك الفرقة.
أما عن نشاط الفرقة فيعتمد على مساعدة البعض، حيث نرى ماجدة تتصل تليفونيا بشخص ما يساعد في عمل مسرح بدائي للتدريبات، ولكن العروض تقام في الشارع، وبأزياء متواضعة، والإعلان عن العروض يتم بالمناداة، وباستخدام طبلة عادية، وموضوعات العروض مباشرة، وتعتمد أيضا على سؤال الجمهور، والحوار معهم عن حق الفتاة في الحب، ورفض التحرش، ورفض الزواج المبكر، ذلك أن الطفلة لا تستطيع أن تربي أطفالا.
ربما افتقدنا معلومات إضافية عن شغف ماجدة بالذات بالمسرح، وعن مصدر التدريبات التي تقوم بها، وكذلك معلومات عن مستوي الفتيات التعليمي، وكلها معلومات مهمة كان يمكن وضعها ببساطة في جملة حوار أو جملتين، ولكن الفيلم نجح من أول لقطة في أسر مشاهده بصريا وعاطفيا، عندما يفتح مباشرة علي البنات وسط الزرع، وداخل مياه النيل، في لحظات مرح وبهجة عفوية، ثم يدخلنا إلي القرية وطرقاتها، وعالم شخصياتها المحدود، وسمائها الواسعة، مع انتقالات مونتاجية سلسة ومحسوبة لمشاهد رد الفعل، ولأماكن القرية وحيواناتها، ليلا ونهارا وصباحا وعصرا.
والحقيقة أن بناء السرد درامي بامتياز، سواء من حيث براعة تقديم الشخصيات، وبدء الصراع بشكل مبكر بسخرية شقيق ماجدة منها، أو بعرض طبيعة نشاط الفرقة، أو بتعقيد الصراع مع زواج مونيكا وخطبة هايدي، وصولا إلى ذروة توتر علاقتهما مع الفرقة، ثم قرار ماجدة بالسفر إلى القاهرة، دون أن تخبر أسرتها بنّيتها تقديم أوراقها لمعهد الفنون المسرحية،
مشاهد بأكملها قوية ومؤثرة، مثل مشاهد حديث البنات عن أحلام تهاجمهن مثل الكوابيس، ومشهد تقليد مارينا للسيدات، وهن تسخرن من عدم زواجها، ومثل مشهد تتخيل فيه ماجدة أنها مذيعة تجري حوارا مع مونيكا بعد أن صارت الأخيرة نجمة غناء مشهورة في القاهرة، وأصبحت تنافس المطربة لطيفة ! ومثل المشهد الأخير، وهو من أجمل مشاهد النهاية في الأفلام التسجيلية المصرية، حيث تقوم بنات صغيرات بمحاكاة فرقة البرشا، وتسرن مع دقات طبول البلاستيك في شوارع القرية، وترتفع الكاميرا إلى أعلى لتستعرض القرية وحقولها، ومع ذلك يظل صوت الطبول مسموعا، فرغم انفراط عقد فرقة الفتيات، إلا أن هناك بنات صغيرات جديدات تكررن المغامرة، وترفعن أصوات طبولهن في مواجهة مجتمع الرجال.
هنا نهاية قوية ودرامية أيضا، تكتمل بها تغريدة فتيات الصعيد، فيصبح الحلم محفورا علي الشاشة، بل ويتحقق هذا الحلم بصورة لم تتخيلها الفتيات، عندما يعرض فيلم "رفعت عيني للسما" في مهرجان كان، وعندما تقوم الفتيات باصطحاب الطبلة، والإعلان عن مسرحيتهن في شوارع كان، ثم تتويج الفيلم بجائزة رفيعة، وذهاب بطلات البرشا إلى المهرجانات المختلفة، داخل وخارج مصر.
كانت أحلامهن تصل فقط إلى القاهرة، وإلى استديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي، التي تحدثت عنها مونيكا في الفيلم، ثم دخلتها فعلا من خلال برامج التليفزيون بعد عرض الفيلم، ولكن الحلم أصبح اليوم باتساع العالم كله، وكأن الله يكافئ حفيدات إيزيس علي الصبر والسعي والشجاعة.
عنوان الفيلم "رفعت عيني للسما" عبارة مصرية كناية عن الدعاء، وعنوان الفيلم بالإنجليزية معناه "حافة الأحلام"، وقد تدخلت السماء فعلا لمكافأة الجميع، ولتحقيق الحلم، لا الوقوف على حافته فقط، سواء بالنسبة لبطلات الفيلم، أو لصناعة الموهوبين، فطوبى للحالمين العاملين، حتى لو لم يكملوا، بسبب الظروف، إذ يكفيهم أنهم حاولوا.
نحن أيضا مسئولون إن لم نساعد كل موهبة حقيقية، بالذات من بنات وفتيات الريف، وأن نرفع عنهن الظلم والتهميش، فالنظرة الدونية للفن مرتبطة بالنظرة الدونية للمرأة، وهذه من أذكي أفكار الفيلم.
ستعيش طويلا في الذاكرة حكاية بنات البرشا، حاملة معها أغنية جميلة لا تنسى، تكررها الأصداء عبر الأزمان :
"احنا حبّة صبايا/ واللي عادينا مين؟".

أضف تعليق