ذلك الشتاء قبل 8 سنوات.. ضربة البداية (2 من 3)
ذلك الشتاء قبل 8 سنوات.. ضربة البداية (2 من 3)
توقفنا فى الحلقة السابقة عند مؤتمر مدريد للسلام وقد سارع بالدعوة إليه أصدقاء إسرائيل فى الغرب بعد أن استشعروا الخطر على كيان الدولة العبرية هذا الخطر الذى تمثل فى اشتعال انتفاضة أطفال الحجارة الفلسطينية، 1987، وخوفهم من أن تتحول إلى ثورة عنف، لذلك خطط المفكرون الاستراتيجيون الصهاينة واليهود للقضاء على هذه الانتفاضة بتقديم جزرة «السلام» للفلسطنيين، وأطلقت أمريكا دعوة لعقد مؤتمر دولى للسلام فى منطقة الشرق الأوسط، وبالفعل انعقد المؤتمر قرب نهاية 1991 فى مدريد الأسبانية يدعو للسلام ظاهرًا، لكن هدفه الحقيقى وضع ترتيبات جديدة للمنطقة لصالح إسرائيل.
والجزرة التى ألقيت للفلسطينيين فى مدريد هى الاعتراف بمنظمة فتح ممثلا شرعيًا لهم، والتلويح بإنشاء دولة فلسطينية.. وبدأ اللعب.
(1)
قبل مؤتمر مدريد بسنوات قليلة كانت إسرائيل قد أنجزت اتفاق سلام مع مصر، بعد أن أدركت أن المعارك العسكرية المباشرة مع العدو لن تحسم نتائج الحروب، فتفوق إسرائيل العسكرى الكاسح فى 5 يوينو 1967 وهزيمتها للعرب، لم يضمن لها السيادة التى تنشدها فى المنطقة، بل على العكس واصلت مصر الحرب بعد أيام من إعلان النكسة، ولم تمض 6 سنوات حتى كان انتصار أكتوبر 1973 يزلزل كيان إسرائيل ويهدد وجودها ذاته باعتراف قادة الكيان العبرى وصرخاتهم لأمريكا لإنقاذها.
لقد حركت حرب أكتوبر القضية الفلسطنية وأخرجتها من ثلاجة الغرب وإسرائيل، وجاء اتفاق السلام بعدها مع مصر ليغير كثيرًا من الأفكار والتوجهات عند كل الأطراف، ولم تمض سنوات كثيرة حتى استيقظت المنطقة على كارثة أخرى، غزت فيها العراق شقيقتها الكويت واحتلتها، بعد ابتلاع صدام حسين للطعم الذى ألقته له أمريكا ودفعته فى هذا الاتجاه.
كان ذلك عام 1990 ومضى السيناريو المرسوم نحو استكمال مشاهده فها هى أمريكا تدعو لتكوين تحالف دولى ضد العراق تقوده هى وتمضى طائراتها إلى جوار طائرات الناتو ودول أخرى عديدة تدك جيش صدام فتكسره وتجبره على الانسحاب من الكويت بعد 7 أشهر من احتلالها.
لقد منح غزو الكويت وتدخل أمريكا والغرب لتحريره فرصة ذهبية للأخيرين للتدخل فى شئون المنطقة العربية والدعوة لإعادة تشكيل أوضاعها (بالطبع لصالح إسرائيل) وكان غزو الكويت بمثابة ضربة البداية فى تدشين مخطط استيراتيجى لخلق شرق أوسط جديد عبر تفجير المنطقة فيما أطلقت أمريكا عليه «الفوضى الخلاقة» أو الفوضى – الجيوسياسية.
وانسحب ما تبقى من جيش صدام من الكويت (شهر فبراير 1991)، فيما بدأ العمل على مخطط الفوضى واستمر 20 عامًا حتى انفجرت المنطقة عند نهاية عام 2010 فيما سماه الغرب «الربيع العربى».
(2)
«الربيع العربى» مسمى براق يخطف الأبصار والعقول، والسؤال: لماذا؟! وكيف؟! وبمعنى آخر ما الهدف وما هى الوسائل والآليات لتنفيذه؟!.. لنبدأ بالأهداف.
الفكر اليهودى التوراتى بات يسيطر على عقلية النخب الغربية تماما.. ومنذ سنوات؟! ولمن لا يصدق أو لا يعرف ننصحه بقراءة كتاب « دم إبراهيم » من تأليف الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر، وننصح أيضًا بالتعرف على عقيدة خلفه الرئيس رونالد ريجان، هذا الممثل الذى كان يؤمن بشدة باقتراب معركة آخر الزمان «هرمجدون» ومسرحها الشرق الأوسط، وانتصار بلاده فيها على قوى الشر، (نحن والسوفيت الشيوعيون)، أما جورج بوش الأب والابن فقد سيطر عليهما تمامًا الفكر الصهيونى الإنجيلى الذى يؤمن بضرورة قيام مملكة إسرائيل وبناء المعبد الثالث كشرط لازم للمجىء الثانى للمسيح عيسى ابن مريم إلى الأرض وحدوث الخلاص، هناك أيضًا مذكرات أوباما وآل كلينتون وغيرهم.
لقد استطاع اليهود على مدار عدة قرون تسييس بعض النصوص الدينية فى الكتاب المقدس (يشمل التوراة والإنجيل) بإدخال تفسيرات تأويلية لبعض نصوصه وقبول طائفة من كنائس الأصولية الإنجيلية، الأمريكية، لهذا التفسير الصهيونى، وفى اتجاه آخر نشر العقيدة الماسونية التى تروج للفكرة الصهيونية وتهدم الدينين المسيحى والإسلامى حتى يحول أتباع للديانتين لقبول الذين صلبوا المسيح عيسى وحاربوا رسول الإسلام ورسالته!!
وفى أمريكا وبلاد الغرب من لم يسيطر اليهود علي فكره، تم ابتزازه وإخضاعه بطرق أخرى، تبدأ بالأموال وقد تصل إلى الدم بالاغتيال المادى أو المعنوى بإلصاق التهم والفضائح، وأعتقد أننا جميعا نعرف ذلك..
(3)
ومع بداية التسعينيات من القرن العشرين كانت أمريكا قد نجحت فى هزيمة القطب الشيوعى المناوئ للاتحاد السوفيتى وتفكيكه بعد غزوه من الداخل وعبر عمليات غسيل للعقل الجمعى للشعوب السوفيتية، وإقناعها بالانفصال والاستقلال عن الاتحاد السوفيتى، وتم توظيف سلاح الإعلام فى ذلك بشكل غاية فى الخبث والدهاء.
وفى الاختراق الإعلامى الأمريكى للاتحاد السوفيتى لعبت مؤسسة غامضة دورًا خطيرًا فى هذا المخطط (سوف تلعب أخطر منه فى المنطقة العربية فيما بعد) واسم هذه المؤسسة «البحث عن أرضية مشتركة Search for common ground»، وقد قامت بتصميم وإطلاق برامج الغزو الفكرى لتغيير مفاهيم شعوب الدول السوفيتية، واستطاعت أن تحصل عبر اتفاقات رسمية على حق بث قناة موجهة لهذه الدول حملت اسم: «ABC T.V» ومن خلالها شرعت تبث الدعايات الخادعة عن التعاون بين الشعوب، والبحث عن قواسم مشتركة بينها، وإغراءهم بجنة النعيم الموجودة فى الغرب والمحرومون منها فى بلادهم إلى آخر هذه الدعايات.
ولأجل تمرير فكرة الانفصال والتفتيت، أنتجت مؤسسة «البحث عن أرضية مشتركة» مسلسلاً حمل عنوان «أمريكا» وتم فيه استبدال الأدوار بمعنى تم تصوير أمريكا بأنها بلد ديكتاتورى تقمع الحريات وعلى العكس منه الاتحاد السوفيتى الذى غزا أمريكا، واستطاع أن يستولى عليها دون حرب أو إراقة دماء، وعلى أثر الغزو تم تفكيك الولايات الأمريكية، إلى دول منفصلة، وتم تغليف الدراما فى المسلسل بدعايات زائفة عن الروح الأمريكية المتسامحة وإمكانية التعاون مع العدو على أرضية سلام وعدم اللجوء إلى الحرب، أو الردع النووى، إلى آخره.
وعملت - أيضًا - المنظمة الأمريكية آنفة الذكر على شراء عديد من دور النشر السوفيتية لتأليف ونشر هذه الثقافة (العولمة والليبرالية الجديدة) عبر الشعوب السوفيتية، وبالتواز كان هناك شغل على مستويات أخرى سياسية، ودبلوماسية واستخباراتية، وقد نجح الأمريكان فى استقطاب عميل سوفيتى، بدرجة رئيس دولة ضغط بشدة فى اتجاه تنفيذ سياسات ما أسماه «البروستريكا»، حتى انتهى الأمر إلى تفكيك الاتحاد السوفيتى.
(4)
وبعد الانتهاء من تفكيك الاتحاد السوفيتى - تقريبًا – توجهت مؤسسة «البحث عن أرضية مشتركة» - بعد اتفاق مع الخارجية الأمريكية - لتنفيذ نفس المخطط فى المنطقة العربية (بتعديلات بسيطة) وبدأت العمل عام 1992 تسعى فيه لـ «تغيير المفاهيم» وغسل أدمغة شعوب المنطقة، ولاسيما الأجيال الجديدة منها.. وللحديث بقية.