حورية عبيدة تكتب: أم كلثوم.. سِيرةُ الحُبِّ

حورية عبيدة تكتب: أم كلثوم.. سِيرةُ الحُبِّ حورية عبيدة تكتب: أم كلثوم.. سِيرةُ الحُبِّ

الرأى3-2-2019 | 16:54

نهرٌ من العُذوبة يشق طريقه إلى نِياط القلب، سِحرٌ حِيكَ من قماشٍ ناصِع البَهاء؛ مَزْجٌ شَفيفٌ مُعَبق بشجن ألمٍ مُلتذٍ يتضَور شوقا لوجه الحبيب في وَصْلِه وَصَدِّه، صوتٌ حالَ سَماعِه نمتطي خيول الانشراح، ونهفو لمرافئ سكينة تُظَلِلها سحابةٌ جليلة؛ ثَرِية؛ نَدِية؛ مُفعمة بالطراوة وانسكاب أطْياف الأحلام. هي الكوكب الحاضر رغم الغياب، الفلاحة "الهانم" التي طلب يدها الباشا مُحطما الأعراف، الصوت الذي أذاب القلوب وهو يتغنى بسيرة الحب؛ ولم يكن يدري أن فَصْل سِيرَته عن سيرة تاريخ مصر -في القرن العشرين- يصبح في عداد المستحيلات؛ بعد أن صارت صاحبته رمزا لأمة كاملة، ومَعْلَما لامرأة شقت باقتدار مساراً وسط أعراف اجتماعية سائدة؛ ومُعَرقِلة؛ وغير مُواتية تنتصر دوما للرجل، فصارت هرم مصر الرابع الذي انحنت له أعناق الملوك والرؤساء، بعد رحلة طَرَبٍ دامت زُهاء خمس وخمسين سنة، ولايزال "شمس الأصيل" يَنْداح عطرها خارج العالم العربي؛ حتى لمن لا يفهمون اللغة العربية. لم تكن أم كلثوم امرأة جميلة؛ بقدر ماكانت بالغة الذكاء، فائقة النجاح في تعاملاتها، تمتلك صوتاً مُثقفاً مدرباً فريداً، جعل الداعمين والعُشاق وعِليةَ القوم يلتفون حولها، حتى انطبق عليها قول فؤاد حداد: "ليه المُغني كل ما يقول الآه؛ الناس تقول الله"، وأن يُصبح الخميس الأول من كل شهر ليلتها هي وحدها، وكأنها تشدو كل مرة "هذه ليلتي" مع قصيدتها الجديدة. " فيرجينيا دانيلسون" الفرنسية الأصل؛ الحاصلة على درجة الدكتوراه في علم الموسيقى العِرقية من أمريكا، التقيتها ذات مساء ثقافي في أبوظبي- العاصمة الإماراتية الباهية – فلم تلبث أن باحَت بمكنون قلبٍ يعشق" السِت"، حكت لي كيف أنها مكثت بالقاهرة خمس سنوات؛ فكان كتابها دراسةً اتسمت بالدقة والعمق والحِيدة العلمية، يتناول "ظاهرة" أم كلثوم مُعنونا بـ (صوت مصر: أم كلثوم، الأغنية العربية والمجتمع المصري في القرن العشرين) الصادر عام 1997 ميلادي. تقول إن اهتمامها ينصب على الدور الذي يضطلع به الفرد الفَذ في الثقافة التعبيرية، وألمحت إلى أنها لم تنشأ على حُب أم كلثوم؛ فهي مثل الغربيين الذين لا يهتمون إلا بموسيقاهم، لكن نظرا لدراستها حول الموسيقى وتأثيرها على المجتمعات، لفت انتباهها ظاهرة تلك المُطربة التي تعدَّت العالم العربي، فأردات سَبْرَ غَور سِر حُب الناس لها، وكيف تمكنت من الحفاظ على شعبيتها على مدي تلك الفترة الطويلة وحتى الأن، خاصةً وأن قصة حياة كوكب الشرق يُجرى حاليا طباعته في الكتب التعليمية المُوَجَّهة للأطفال! دراسات؛ وكتب؛ومقالات؛ وندوات؛ وصور؛ وفاعِليات ثقافية - قارئي العزيز- امتلات بها أرجاء المعمورة، تَهِيمُ بحثا وعِشقا لذلك الصوت الشَّجي النَّدي الثَّري لتلك الشخصية، لكن مايلفتني دائما وأراه السِر وراء كل النجاحات في كافة الأمكنة والأصعدة؛ السر يكمن في كلمة واحدة وهي: الإتقان؛ فهذا محمد عبد الوهاب يحكي كيف أنها كانت تُجرى "البروفة" خمسين مرة قبل أن يستمع إليها الجمهور؛ كما حدث في قصيدة "أغدا ألقاك"، الدقة الفائقة في اختيار القصائد قديمها وحديثها؛ وأحيانا أبيات مُعينة تعيد ترتيبها؛ أوتستبدل الكثير من مفرداتها بما يناسبها هي، وطبعا هذا مَرَدُّه حِفظُها للقرءان الكريم، وتَمكُنها من اللغة العربية الفصيحة، فتولدت لديها ذائقةٌ مميزة؛ وحِسٌ خاص؛ مما جعلها تمسك بزمام الثقة فتُغَير وتُبَدل الأبيات كيفما شاءت. يقول "بيرم التونسي" كيف أنه كان يؤلف الأغنية في ليلة واحدة؛ ثم يمكث عشر ليال بين شدٍ وجذبٍ وتبديلٍ وتغييرٍ ؛ حتى تقتنع بها "السِت" وتَقْبلها، كانت تعيش حالة دائمة من الـ "ماراثون" بِدءا من اختيار الكلمات، أو تطلب من الشعراء أن يكتبوا حالة أو معنى مُعين هي توده كي يَسْكُنها النص، وقد تُوعِز لشاعر آخر أن يكتب في نفس المعنى؛ ثم تُفاضِل بين القصيدتين، ومع تدقيقها "المُزعِج"؛ إلا أن الشعراء اعترفوا أنها كانت عاملا رئيسيا في تطور أدواتهم وأساليبهم. بعد أن تنتهي مِحنة الشعراء؛ تبدأ مِحنة التلحين، فيذكر "السنباطي" أن العمل معها يشبه بناء السد العالي، فقد كانت تَكره "النوتة" الموسيقية، وتُعَوِّل على شعورها، وتطلب من الموسيقيين ألا يحفظوا اللحن؛ بل يعيشوه مثلما تعيشه هي، وبلغ من شدة اتقانها رَفْض كل من يعمَل معها أن يتركها مهما بلغ إرهاقه، وهنا نذكر كيف أن "القصبجي" حين لحن لأسمهان، غضبت أم كلثوم ورفضت أن تغني ثانية من ألحانه، لكنه بَقى عازفا في فرقتها كما هو !. لا شك أن أم كلثوم كانت تتمتع بشخصية "كارزمية" قوية، فقد واكبت كبار المطربين كمنيرة المهدية؛ وسعاد محمد؛ ومحمد عبد الوهاب؛ وفريد الأطرش؛ وأسمهان؛ وعبد الحليم حافظ؛ وكانت تتحكم بنقابة الفنانين والإذاعة المصرية؛ كذا اهتمامها بالوطن جعلها من أهم موارد الدخل القومي وقتئذ، وأصبحت سندا قويا للجيش المصري، وتحولت حفلاتها لمظاهرات سياسية تُلهب الشعور الوطني مطالبة بجلاء المستعمر.. وماتزال شخصية وظاهرة أم كلثوم حافلة بالأسرار.
أضف تعليق

إعلان آراك 2