عاطف عبد الغنى يكتب: حكاية أميرة عبد المعبود

عاطف عبد الغنى يكتب: حكاية أميرة عبد المعبودعاطف عبد الغنى يكتب: حكاية أميرة عبد المعبود

* عاجل17-5-2019 | 15:03

فجأة يكتشف إنسان ما أن شبح الموت يقف ببابه ويطرقه بشدة، ولا يملك معه وأمامه إلا أن ييئس من النجاة ويفتح له الباب ويلقى بجسده تحت قدميه، سقطة استعطاف أن يبقى عليه ساعات أو أيام أو سنين أطول فى الحياة، وربما تكون سقطة   انهيار واستسلام للقدر.

لا أحد يدعى – رجلاً كان أو امرأة – أنه أقوى من مفاجأة صدمة اكتشاف الفاجعة، إذا كان إنسان من لحم ودم لابد أن يخامره هذا الشعور بالتصدع، وتجرى أمام عينيه خيالات هذا المقنّع الذى يأتى فى الظلام حاملاً منجله ليحصد روحه، وفى هذه اللحظة سوف يفكر فى اللجوء إلى القريبين منه، ابنه، ابنته، أشقائه، أبويه، أصدقائه، وغالبًا سوف يتبادر إلى ذهنه سؤال: هل سأرحل بعيدا، وحيدًا إلى المجهول؟!.. هم أيضا سيفكرون فى افتقاده، ولن تتوقف خيالات المصدوم عند حد، ستتجاوز إلى أمور أبعد كثيرًا، فى البحث مثلاً عن معنى للحياة، وجدوى الرحلة، والألم و...؟!  وسوف تأتى الإجابات على قدر درجة الاقتراب من الله، واهب الحياة، والمتصرف فيها، سبحانه وتعالى.

المسيح عيسى بن مريم وهو نبى، كان يدعو ربه: «اللهم لا تضعنا فى تجربة»، وصاحبة المرض اللعين هى الآن فى قلب التجربة.. مصابة بالسرطان.

(1)

ألح علىَّ إهداؤها الذى صدّرت به كتابها أن أبدأ به، «إهداء.. إلى جميع محاربى السرطان فى مشارق الأرض ومغاربها، أدام الله صمودكم، وبارك فى عزيمتكم، وزادكم قوة فوق قوتكم، وصبر فوق صبركم، وحالفكم بالنصر أينما كنتم» توقيع: أميرة عبد المعبود.

أميرة سجلت تجربتها فى كتاب حمل عنوان: « أنا والسرطان.. راجل لراجل»، وأنا أصدق أن بطلتنا، تصرفت تصرفات الرجال الأشداء، وهى تنازل عدوها الذى بدأ هجومه على جسدها أولا، لكن سؤالى: هل كان هذا المقتحم المراوغ على الند منها ؟!.. الإجابة فى متن الكتاب ، لكن أول إشارات الصمود صورة على الغلاف لإمرأة أعطت ظهرها للمطالع، (ليس مهمًّا من تكون هى رمز) وهى بالتأكيد مصرية، غطاء رأسها، وما بدا من هيئتها يقولان ذلك، وقبضة يدها المضمومة تحملها ذراعها المرفوعة إلى مستوى الرأس علامة القوة والتحدى.

(2)

ومن بعد الإهداء تحكى أميرة: «يدى على صدرى تتحسس ضلوعى البارزة، وكأن الزمن عاد بى طفلة من جديد وفجأة (!!) تصطدم أصابعى بجسم غريب يُشبه كرة صغيرة لم أحسها من قبل.. ضربات القلب تتزايد، بل وتتصارع.. علامات الخوف والفزع تملأ وجهى وكل كيانى.. فأسرعت إلى مرآتى لأرى ما هذا؟

.. وفى فقرة أخرى: قال الطبيب: «هم ورمين.. ولكن مش معروف إيه نوعهم!».. واسترسل فى كلامه فأخذ يرسم لى خريطة لينقذنى من هذا البئر السحيق... هو يتكلم وأنا لا أسمع .. فقد توقف سماعى عند كلمة «ورمين» وأخذ عقلى يرددهما.. لا لأنهما اثنين، ولكن كلمة ورم فى حد ذاتها لها وقع الماء المثلج على جسد محموم فى عز الشتاء.»

ونقفز صفحات مع الحكاية لنقرأ فى محطة أخرى فارقة: «حاول مختص الأشعة أن يخفى عنى ما رآه هو.. ولا يعلم أنى رأيتها أنا فى عينيه.. ما هى التى رأيتها؟.. رأيت شفقة لا حدود لها.. ولكنى كذّبت نفسى.. وسألته حتى يخبرنى بالحقيقة، فتهرّب من الإجابة.. جاء رأى طبيب الأشعة كأخوته ممن سبقوه.. بنفس النظرة الطويلة ولكنه أعقبها بمقولة صريحة: «شكله.. مش.. مريح» وعقلى يردد خلفه: «شكله.. مش.. مريح» وظل يرددها حتى حورها الشيطان وثبتت على: «شكله.. مش.. حميد»، قتل التفاؤل.. ومات الاستبشار!

وتواصل: « عدت مرة أخرى لطبيب الأورام ليرى تقرير الأشعة.. أنا بصوتٍ باك: بيقولى مش حميد، فقال الطبيب» «لاااااا متضحكيش عليَّا بيقول مش مريح».

عند الفقرة الأخيرة قفز إلى خيال كاتب هذه السطور حيرة المريض وتعبه وتعب من حوله فى هذه المرحلة من العلاج الشاقة نلمحها فى فقرة تقول فيها أميرة :» ظهر تقرير الأشعة بثلاثة قياسات مختلفة أى أن لدى ثلاثة أورام.. وإلى وقتنا هذا يراودنى الشك أن هذه الأورام قد تكاثرت بفعل هذه الإشاعات المتلاحقة و.. هاهى قطعة جديدة من الثلج تكوى جسدى المحموم، ولسان حالى يقول: «ها؟ مين يزود؟».

(3)

هكذا السرطان.. يهاجم بدون استئذان وأصعب ما فى الأمر الاكتشاف الأول، والصدمة الأولى التى تحدثت أيضًا عنها أميرة واعترفت: «عايشت حالة إنكار شديدة فى بداية الأمر».

ثم ربط الله على قلبها ومن بعدها بدأت رحلة العلاج الشاقة التى غالبا ما يتخللها تغيرات تطرأ على الجسم، خاصة مع جلسات العلاج الكيماوى المؤلمة أو جلسات الإشعاع ذات الآثار الجانبية الكثيرة وهى آلام وآثار لا يتحملها إلا من كان إيمانه أقوى من المرض ذاته.

وأجمل المشاهد التى توقفت عندها فى حكاية أميرة، ما حدث بينها وبين زوجها ليلة إخبار الطبيب لهما بإصابتها بالورم، حيث تقول: « انتهت مكالمة الطبيب.. وابتدت محنتى، فقضينا أنا وزوجى ليلة مريرة.. أشفقت عليه كثيرًا فى ذلك الوقت فهو حائر لا يدرى ماذا يفعل؟!، فتارة يبحث على شبكة المعلومات، وتارة يتحدث مع أصدقائه، فربما فى تجاربهم طوق النجاة، وسمعت منه فى تلك الليلة مالم أسمعه من قبل، فلو كان الأمر بيده لوقف هو على حافة الهاوية، وواجه الخطر، وعاش الابتلاء ليفدينى، فأعيش أنا لأولادنا.. وعلى قدر ما انفعلت عليه حين قالها، على قدر ما شعرت بهدوء نفس بعدها، لا لشىء.. ولكنى تخّيلت ما قاله تحقق عياذا بالله، وصرت أحمد ربى وأشكره حيث أرسل اختباره لى فى شخصى أنا..»، انتهى للاقتباس من كتاب أميرة.

ووجدتنى أهتف: آاااه لو يعلم الأزواج والزوجات معنى المودة والرحمة التى أوصى بهما الله الزوجين، ويعلمان أن المحبة الحقيقية كامنة فى القلوب لا تخرج إلا حين تستدعيها الضرورة، لما جار أحدهما على الآخر، ولا كفر أحدهما العشير ؟!

(4)

سرطان الثدى تصاب به نسبة مرتفعة من النساء فى مصر، وحين يضرب ضربته لا يفرّق بين فقيرة وغنية، ولا متعلمة وأمية، لكنه لا ينهزم إلا أمام المرأة القوية التى تؤمن - مثل بطلة حكايتنا – أنه ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، ويجب استقباله بالرضا دون تذمر لأنه سبحانه وتعالى هو الذى لا يحمد على مكروه سواه.

.. ما أجمل أن تكون تجربة الكتابة بهذا الصدق، خاصة لو كانت الأولى، فقليلون من الكتّاب من يجيد التعبير عن مشاعره، وأقل منهم من يصيغونها كلمات بهذه الروعة.. لقد عشت وأنا أقرأ مع صاحبة التجربة لحظات الخوف والقلق (مع الفارق) وشعرت أحيانًا بالشفقة عليها (أنا آسف) وتعاطفت معها، ولكننى استمتعت وشعرت بالتطهر الداخلى الذى يخلقه الفن الجميل.. «ربنا يتمم شفاكى على خير يا أميرة».

    أضف تعليق

    رسائل الرئيس للمصريين

    #
    مقال رئيس التحرير
    محــــــــمد أمين
    تسوق مع جوميا

    الاكثر قراءة

    إعلان آراك 2