محور العقيدة الإسلاميّة، بل محور الدِّين كلّه، ولب العقيدة، هو التوحيد، ويمكن تعريفه اصطلاحا بأنه: «إفراد الله تعالى بما يختص به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات».
والنطق بشهادة التوحيد «أشهد ألا إله إلا الله» هو نصف الشهادتين: «أشهد ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله»، ومن نطق الشهادتين صار مسلما، لا أحد من البشر يستطيع أن ينفى عنه هذه الصفة، حتى ولو خالف كلامه نيته، لأن الله سبحانه وتعالى هو وحده العالم بالنوايا، هذا ما استقرت عليه شريعة الإسلام، ووقر فى أفهام المسلمين وأفئدتهم منذ نزول الوحى، وحتى اليوم.
لكن أئمة ومنظرو ما يسمى تيار الإسلام السياسى، ابتدعوا - خلال المائة عام الأخيرة - مفهوما يكاد يكــون جديــدًا لـ «التوحيد» عبر تأويلات متعسفة، افترضوا فيها أن مسلمى ما بعد عصر النبوة والسلف الصالح لم يعودوا يفهمون اللغة العربية، ودلالات كلماتها، كما فهمها المسلمون على عصر النبوة، وبالتالى تشوش فهمهم لكلمات الإله، والرب، والدين، والعبادة، ومن ثم تشوش فهمهم للشهادة، والتوحيد، وخطورة هذا التأويل هو أنه اتهام مبطن بالإشراك، واتهام واضح للمسلمين المعاصرين بالردة إلى الجهالة الدينية التى كانت متفشية فى العرب عصر ما قبل البعثة المحمدية، واستولدت النظرية السابقة مفاهيم جديدة تأويلية سوف يتم توظيفها لاحقا ضد الخصوم السياسيين بالأساس مثل: «الحاكمية» و«الولاء والبراء» و«الطاغوت»، وأصبحت هذه المفاهيم مرتكزا ومنطلقا لخطاب سحرى، وتم من خلاله استقطاب شريحة ليست صغيرة، من الشباب الغض الثائر بعد أن لاقى قبولا لديهم، حين بشرهم بإعادة إحياء مجتمع القيم الإسلامية فى نقائه الأول، وعصر الرسالة الذهبى، وإعادة تكوين أمة إسلامية بديلة للخلافة الإسلامية (العثمانية) التى سقطت، وإحياء روح الإسلام الثورى فى نفوسهم بدعوى الجهاد الذى مآله إما الحصول على مغانم الدنيا، أو الشهادة وبلوغ الجنة.
(1)
لقد أنتج أئمة ومنظرو «الإسلام السياسى» خلطة سحرية مزجوا فيها الدينى بالسياسى، فأنتجوا شحنة رمزية مقدسة شرعنت (أضفت شرعية دينية) على سلوك تيار الإسلام السياسى، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين، وما تفرع عنها من تيارات، وحركات جهادية، توجهت بجرائمها نحو المجتمعات المسلمة التى تعيش بين ظهرانيها.
ورسخ هذا التأويل السياسى للدين فى عقل الشباب مفاهيم الإقصاء والعنف والإرهاب، على أنه ممارسة جهادية، ولم يلق الذين صاغوه فى نظريات، بالا لنتائج الفتنة التى زرعوها فى الأمة الإسلامية وشعوبها فى مشارق الأرض ومغاربها.
وقد لاقت هذه الأفكار وهذا الخطاب، فى البداية، رواجا فى الهند ومصر تحديدا، حدث هذا خلال الربع الثانى من القرن العشرين الماضى، وكان وراء الرواج 3 عوامل شكلت الأرضية الحاضنة له، أول هذه العوامل صراع الشعوب التاريخي والاجتماعي للتحرر والاستقلال عن الاستعمار، هذا الصراع الذى امتد من بداية الحقبة الاستعمارية إلى مشاريع الدولة الوطنية، وتعثر هذه المشاريع، والثانى الرصيد الهائل من التراث الثقافى الأصولى المتشدد الذى استدل به التكفيريون لشرعنة نظرياتهم، والعامل الثالث ظهور المنظرين والمفكرين الاستراتيجيين فى هذا التيار، والذين استثمروا ضغوطات البيئات المحلية والعالمية فى استدعاء المقدس إلى المجال السياسى(1)، وفى هذا الصدد يبرز إسمان لعبا دورًا خطيرًا فى التأسيس للتراث الجهادى التكفيرى، فى تجليه الأخير، هما: أبو العلاء أو أبو الأعلى المودودى كما اشتهر، والثانى سيد قطب.
(2)
مشكلة كبيرة وضعت فيها جماعة الإخوان المسلمين نفسها عندما أصدرت كتاب «دعاة لا قضاة» وعلى غلافه اسم المؤلف «حسن الهضيبى» وهو المرشد الثانى للجماعة، وهذه المشكلة تتمثل فى أن الجماعة – فى هذا الكتاب – تتبرأ من فكر سيد قطب، فى امتداده المتمثل فى أستاذه المودودى.
سيد قطب منظّر ومفكر الجهاديين، ومرجع التكفريين الجدد، معروف فى مصر لكن قليلون الذين يعرفون المودودى، المولود فى ولاية حيدر أباد بالهند عام 1903 (قبل 3 أعوام من ميلاد قطب)، وظروف حياة الرجلين تتشابه إلى حد كبير من البيئة الحاضنة، والظروف الاجتماعية التى نشأوا فيها، وصدامهما النفسى مع الحضارة الغربية، واندفاعهما العنيف فى توظيف الدين لأهداف سياسية بدعوى الجهاد، وضلوعهما المباشر فى أعمال إرهابية ضد أنظمة الحكم القائمة، والتحريض على العنف لتغيير هذه الأنظمة، بدعوى كفرها، وهو ما أوصل كلاهما إلى حبل المشنقة، وصدور أحكام قضائية بإعدامهما، وقد شاء حظ المودودى أن يفلت من تنفيذ الحكم فيه، وتم تنفيذه فى سيد قطب عام 1966.
ما أشبه الرحلة، وأشبه المعين والبيئة والظروف التى استولدت فى رأسى المودودى وقطب أفكار العنف والانتقام والإقصاء، فراحا يلبساها رداء المقدس ليسحروا بها ملايين المسلمين – رجالا ونساء – فى أرجاء المعمورة.
(3)
فى بداية الأربعينيات كان يبلغ من العمر 38 عامًا عندما أسس المودودى فى لاهور بالهند، «الجماعة الإسلامية»، وكان حسن البنا قد سبقه فى مصر وأسس جماعة «الإخوان المسلمين عام 1924، وتشابهت الجماعتان فى أن ظاهرهما دعوى وباطنهما سياسى حركى.
وفى مقالاته التى كان يكتبها فى مجلة «ترجمان القرآن» دعا المودودى مسلمى الهند للانضمام لجماعته فقال: «لابد من وجود جماعة صادقة فى دعوتها إلى الله، جماعة تقطع كل صلاتها بكل شىء سوى الله وطريقه، جماعة تتحمل السجن والتعذيب والمصادرة وتلفيق الاتهامات، وحياكة الأكاذيب، وتقوى على الجوع والبطش والحرمان والتشريد، وربما القتل والإعدام، جماعة تبذل الأرواح رخيصة، وتتنازل عن الأموال بالرضا»، كلمات حاشدة وأفكار موحية لمسلمى الهند للحرب على جبهتين، الداخل حيث يطالب بانفصال الأقلية المسلمة فى دولة مستقلة عن الهندوس تحديدا، (كانت فيما بعد باكستان) والجبهة الثانية يحارب فيها الاحتلال البريطانى، والأخير لا يفرق فى بطشه بين هندوسى ومسلم، ويسعى بكل الطرق لتأجيج الفتنة بين أتباع الطائفتين، ويستخدم العقائد المارقة للطعن فى الإسلام مثل القاديانية.
(4)
وتردد فى نفس المودودى أن أحوال مجتمعات المسلمين المعاصرة ليست تلك التى نشدها الإسلام ولا الوحى عندما تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام الثورى الذى حارب الكفار والمشركين.
فكتب مقالات حملت عنوان: «المصطلحات الأربعة فى القرآن» وأصدرها فى كتاب، كان بمثابة الدليل الذى فرز من خلاله جماعته التى أسسها، وجنبها عن مجتمع بلاده، حين قال فى مقدمة الكتاب: «تم تأليف هذه الرسالة سنة 1360هـ وهى السنة التى تأسست فيها الجماعة الإسلامية فى الهند فكان لهذه الرسالة يد – أى يد – فى إيضاح دعوة الجماعة وتحديد موقفها من جميع الأحزاب والجمعيات التى كانت قائمة فى البلاد (الهند)، فما تقدم بعدها أحد للاشتراك إلا كان على بينة تامة من الفرق بين دعوة الجماعة، وبين ما تدعو إليه سائر الأحزاب والجمعيات، على الرغم من أن بعضها يدعى أنها ما قامت إلا لأجل الإسلام ونشر دعوته».
وهكذا كان الفرز على أساس سياسى اكتسى برداء الدين، وكان الهدف من إنشاء الجماعة بوضوح هو الجهاد المسلح، وفى هذا التاريخ، كانت «الإخوان المسلمين» قد رسخت أقدامها فى مصر، وشكلت «النظام الخاص» أو التنظيم الخاص، أو التنظيم السري، وهو نظام عسكري، وكان ذلك في عام 1940 .
..وللحديث بقية
مراجع
(1) الباحث التونسي محمد سويلمي فى بحثه المحكم بعنوان: «مفهوم التَّوحيد وإبدالاته فى خطاب الإسلام السياسيّ».