أتذكر بكل امتنان دكتور عبد العزيز حمودة رحمه الله، أستاذ الدراما والنقد في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة القاهرة، كان يقول لنا دائما إن الكثير من الباحثين العرب ينقلون النظريات الغربية ويوظفونها في نقد الأدب العربي غافلين عن الجذور والبيئات الثقافية، التي اشتقت منها تلك النظريات، وهي بيئات مختلفة أشد الاختلاف عن المحيط العربي ومكوناته الثقافية.
تحضرني كلمات أستاذي الجليل في كل مرة أري فيها مدربي التنمية البشرية في مصر يشقشقون بكلمات ونصائح منقولة عن كتب مساعدة الذات في الغرب، تخص منظومات وتفاعلات غربية في الأساس.
وحتي إذا اتفقنا أن هناك شخصيات وقصص كفاح تلهم الناس علي اختلاف ثقاقاتهم، وأن التذرع دائما بالتنوعات الثقافية قد يكون حجة لدعاة الانغلاق والشوفينية، فإن المجتمعات الغربية تشهد الآن تيارا نقديا حادا يقودة متخصصون وباحثون نفسيون يمحصون فيه أساطير التمنية البشرية وزيفها، وفي الحقيقة فإن أشد ما يثير غيظي أنا شخصيا من تلك الأساطير ما يسمي بالطاقة الإيجابية!
وهي ببساطة قناع يواري (التفكير بالتمني) وهو نمط في التفكير شديد الخطورة علي الشخصية الإنسانية، حين نبني قراراتنا علي ما نتمني حدوثه وليس علي حسابات العقل والواقع، الطاقة الإيجابية مخدر يجمل التحديات ويبسط العلاقات ويسحب الغافلين إلي مدارك الفشل وهم مبتسمون كالبلهاء.
خلاصة القول، إن مدربي التنمية البشرية يجهدون أنفسهم لإقناع زبائنهم بشكل غير مباشر أن الحياه لا تحتاج سوي كتالوج نمشي عليه ومحاضرات ندفع فيها المال!
وإذ أكتب الآن عن إبراهيم النبراوي والعم جابر، أطمح في أن يتعلم الشباب أن هناك رجال سطروا قصصا من الكفاح والمجد دون أن يلتفتوا لإكليشيهات الغرف الدراسية المغلقة وضوضاء الميكروفونات، وإن الحياة خلقت لنخوض غمراتها ونظل فيها كادحين بالعلم والعمل حتي نلقي الله سبحانه.
عم جابر، نوبي الجذور والملامح، بلون طمي النيل الذي حمصته الشمس وغبار قوافل التهجير، يستقر وجهه الأسمر علي عنق صغير فتشعر وهو ينظر إليك أنه تمثال فرعوني يداري خلف مصير الصمت حكايات طويلة وحزنا مقيم.
لم يحصل عم جابر علي شهادة جامعية، لكنه اغتنم فرصة سفر للكويت بداية الثمانينيات من القرن الماضي ولحقت به أسرته، ظل يتنقل بين المهن اليدوية حتي حانت اللحظة وتجاسر علي مخاطر العمل الحر، أسس مع شريك كويتي متجرا للأدوات الكهربائية، وفي وقت قصير أصبح عم جابر بيزنس مان شريف تتكاثر بين يدية الأموال وكأنها خلايا تنقسم وتتزاوج، أقبل علي الحياة يعوض أسرته أيام العسرة ويسقيها من رحيق العز والنعيم، اشتري بيتا فاخرا وملأ دولاب زوجته بالفساتين وتسريحتها بالعطور المستوردة، وأقبل علي الدنيا يحضن دقائقها وثوانيها في لهفة الظمآن!
لكنها فاجئته وتسللت إليه من مأمن، دخل صدام الكويت في إحدي نوبات حمقه في العام 1990، قام الجيش العراقي بسرقة البيوت والبنوك والمتاجر، اغتصبوا النساء وقتلوا العزل وسحقوا الكرامة ، كان عم جابر أحد ضحاياه، أصبح مفلسا وتائها ومشردا، سقط من عليين ليتدحرج بقسوة علي منحدر الفقر والخراب، عاد
إلي مصر بإعجوبة لا يدري أين يضع قدميه، لكنه لم ييأس، استمر في العمل ونبش صخرة الأحلام بأظافره المنهكة حتي نجح في تربية أولاده بالحلال ليتزوجوا ويقيموا أسرا.
أتاني عم جابر يريد أن يفتح صفحة جديدة (وهو في السبعين من العمر)، فهو يهوي التدريس ويتمني أن يتعلم الإنجليزية ليعلمها لأطفال المدارس وخاصة بعد أن تعب من التريسكل الذي يبيع عليه الحلوي في الشارع.
لا يعترف عم جابر بأن الشيخوخة معناها الاستكانة وطلب المساعدة من الأولاد جاء ليتعلم فتبادلنا المواضع، وجدت نفسي تلميذا منتبها بكل مشاعره وجوارحه مع ما يري ويسمع، شجرة مثمرة مزدهرة تنسي معها كل الفلسفات الجافة والفذلكات الفارغة، علمني عم جابر أن أتعلم الأدب مع الخالق وأدور مع الدوائر بقلب خاشع يصبو دوما إلى الرضا والتوكل علي الله.
ذهب ذات مرة إلي ساقية الصاوي كعادته من وقت لآخر ترويحا عن نفسه، قابله أحد الصغار عارضا عليه أن يحضر محاضرته، قال له عم جابر:
-- ماذا سوف تعلمني ؟
-- سوف أعلمك أن تتكيف مع الشيخوخة وتسعد بحياتك
-- شكرا يا ابني، أنا لا أحتاج إلي كل هذه الميكروفونات و كل هذه الدوشة أن كنت سوف تساعدني في تعلم مهارة جديدة مثل الطهي أو التحدث بالإنجليزية أو الرسم فأنا تحت طوعك، لكن ما تقوله اليوم نقلا عن كتب ونظريات باهتة، تعلمته أنا بالدم والدموع.
عم جابر راض عن رحلته بكل مافيها وكل ما هو محتمل أن يكون، كان يمشي مشوارا طويلا في الصباح الباكر ليحضر الكلاس ثم يبدأ في التجول ليكسب قوت يومه، كان بسيطا وطيبا ويذكر زوجته ورفيقة كفاحه بكل خير ويعتبرها ملكة حياته.
إبراهيم النبراوي: الرحلة الطويلة من شق البطيخ إلي شق البطون
في بدايات القرن التاسع عشر، عاش الصبي إبراهيم مع أبويه في قرية نبروه بدلتا النيل، كان أبوه فلاحا فقيرا شأنه شان غالبية المصريين، وعندما بلغ من العمر ما يجعله يشعر بمعاناة أسرته ويكتوي بآلامهم، بادر بشراء بعض ثمار البطيخ وشحنها علي جمل مستأجر وشد الرحال إلي القاهرة طلبا للرزق وتخفيفا علي أبيه الكادح، وبعد أن وصل واستقر به المقام، مرت عليه الأيام شاقة وهو الصبي الأخضر، عاندته القاهرة الواسعة بأسواقها وحواريها وصخبها الذي لا ينقطع، وعندما كسدت بضاعته أرسلها مع الجمل إلي أبيه ليتفرغ هو للبحث عن عمل آخر، ولكن المدينة المستعصية ظلت تلفحه بجبروتها وتتجاهل سعيه الدؤوب، وذات صباح عندما أوشك حبل الصبر أن ينقطع، مر أمامه شيخ طويل ذو مهابة وخلفه أهل الغورية يتباركون به ويوقرونه بينما هو منشغل بالذكر علي مسبحته الطويلة التي تتدلي خلف لحيته الناصعة أسفل وجهه الوضاء.
وعندما سأل الصبي عن ذاك الشيخ، أخبروه أنه شيخ الجامع الأزهر، ذهب الولد إلي الجامع وانتظم في حلقات العلم، وعندما أرسل الوالي محمد علي رجاله لانتقاء النابغين من الفتية المصريين حتي يرسلهم إلي فرنسا لتكوين قاعدة علمية صناعية بعد عودتهم، كان شيوخ الأزهر جميعا منبهرين بإبراهيم ويمتدحون ذكاءه وخلقه وصبره علي طلب العلم، لم يكن إذا من المفاجئ أن يصطحب رسول الوالي الفتي الصغير ليلتحق بالبعثة العلمية إلي باريس عاصمة النور.
سرعان ما أبدي إبراهيم تفوقا علي أقرانه في دراسة الطب ليبهر الفرنسيين أنفسهم، مرت السنون وتخرج صاحبنا بأعلي الدرجات الشرفية، عاد إلي مصر وأصبح أول جراح مصري وعربي في العصر الحديث، قام محمد علي بتعيينه طبيبا خاصا للأسرة العلوية، لم يستطع عباس من بعده المغامرة باستبعاده من هذا المنصب الرفيع، رغم ماعرف عنه من تعاليه علي المصريين من الأصول البسيطة.
أصبح النبراوي أول وأشهر الجراحين المصريين في القرن التاسع عشر، تألق نجمه في القصور العالية وبين البيوتات الغنية، بعد أن كان يستند علي حائط في الغورية يكاد يتسول قوت يومه، أسس عائلة عريقة ما زالت تنجب الأطباء والنابغين في كل المجالات.