د .ناجح إبراهيم يكتب: البيروقراطية المصرية .. وصناعة الدواء
د .ناجح إبراهيم يكتب: البيروقراطية المصرية .. وصناعة الدواء
"مصر من أكثر الدول بيروقراطية نظراً لأنها من أقدم دول العالم التى تمتع بحكومات مركزية، فالدولة المصرية عمرها 7 آلاف سنة,فإذا كان متوسط عمر الحكومة عامين فقد مرت علي مصر 3500 حكومة ولو افترضا أن كل حكومة تسن مائة قانون فحسب فيكون لدينا ترسانة من القوانين واللوائح تعد بعشرات الآلاف.
القانون قيد,وهو يفيد إذا وضع ونفذ بطريقة صحيحة,أما ما سوى ذلك فسيعطل معظم النشاطات الاقتصادية ويكبلها وخاصة مع الإدارات والموظفين الذين لا يتمتعون بأدنى درجات المرونة والنظر للمصلحة العامة،فترخيص الدواء في مصر يستغرق ثلاث سنوات.
كانت هذه بعض كلمات د/محسن محجوب في مؤتمر الدواء الآمن الذى رعته جريدة الأهرام الغراء،والرجل أحد رواد العمل الخيرى وأحد أبطال أكتوبر وأحد رجال الأعمال الشرفاء ومن تلاميذ الشعراوى ومن نماذج التصوف الحق.
ثلاث سنوات كاملة يستغرقها التصريح للدواء رغم حصوله علي صلاحية من FDA وهي أعلي مؤسسة علمية دولية لإقرار صلاحية وفاعلية الأدوية،ورغم استخدامه في مصر سنوات كدواء مستورد بل ومهرب.
وهذه الثلاث سنوات إذا كان طالب التصريح واصلاً"ومضبط فوق وتحت"علي رأى عادل إمام,وحجة الوزارة في ذلك أنها ستجرى علي الدواء الفحوصات والتحاليل المطلوبة وكأن معامل الوزارة أرقي معامل في العالم أو أن اختبارات الأدوية لديها أدق من كل الاختبارات العالمية السابقة,إنها تدفن رأسها في الرمال لأن هذا الدواء استخدم قبل ذلك في أرقي دول العالم التى تتحسب لصحة شعوبها أكثر منا.
ولكن حقيقة الثلاث سنوات هي لتعذيب الصانع المصرى والأجنبي,ولك أن تتخيل خلال هذه السنوات الضائعة علي صناعة الدواء المصرية,كم استهلك المصريون من هذا الدواء لصالح الشركات الأجنبية،وكم تم تهريبه لصالح مافيا التهريب,وكم تكسب أولاد الحرام علي حساب أولاد الحلال من رجال الصناعة ورجال الأعمال والمستثمرين المصريين الشرفاء الذين سينقذون المئات من البطالة ويوفرون الدواء بسعر معقول.
وقد أفلح المؤتمر في اتخاذ وزيرة الصحة قراراً تاريخياً بإصدار تصريح فورى لأي دواء حاصل علي صلاحية FDA.
ثلاث سنوات كانت تهدر عن عمر الوطن واقتصاده وعلاج بطالته المتفشية من أجل قواعد وقوانين عقيمة بالية تظن في نفسها زوراً وبهتاناً أننا أفضل من العالم كله وأرقى منه.
ولك أن تقيس هذه البيروقراطية علي أمور كثيرة أخرى,ومنها علي سبيل المثال لا الحصر بقاء ماكينات وأجهزة ومواد أولية للأدوية وغيرها في الموانى عدة أشهر بحجة فحصها أمنياً مما يسبب خسائر فادحة نتيجة دفع أرضية باهظة للميناء.
وقد اضطر أحد تجار الكمبيوتر لإغلاق شركته وتحويلها إلي مطعم وكافيه لأن الكومبيوترات التى استوردها ظلت في الميناء عدة أشهر فخسر خسارة كبيرة اضطرته لإعادة الصفقة وأراح باله قائلاً"خلينا في الكافيهات والساندوتشات والجوزة والمعسل"والجميع يردد"هذا هو المشروع الناجح رقم 1 في مصر".
ما المانع ألا تزيد مدة الفحص مثلاً عن ثلاثة أيام بدلاً من جلوس الموظفين بلا عمل أو زيادة الورديات أو...أو...المهم أن هذه الترسانة العتيقة من اللوائح والقوانين"والعراقيل والتلاكيك"تتزحزح وتصبح مرنة.
كل شيء حولنا يتطور بسرعة ونحن نتطور ببطء شديد فكل البلاد التى سبقناها في التحضر في العصر الحديث أنتجت المواد الخام لصناعة الدواء,وهي من أساسيات الأمن القومى المصرى لأنه لا يمكن صناعة أي دواء إلا بهذه المواد الخام ومن لا ينتج الطعام والدواء والسلاح فلا أمن قومى حقيقي له.
وقد كان هناك مشروع مصرى لإنتاجها في الستينات توقف نتيجة صراعات الحرب والسياسة التى خاضتها مصر في الستينات،ورغم خروج مصر من هذه الصراعات منذ منتصف السبعينات وحتى اليوم إلا أننا نستورد المواد الخام لصناعة الدواء المصرى إما من الغرب وإما من الصين وماليزيا والهند وتركيا,وهذه المواد الخام من هذه الدول الأربع رديئة الصناعة بالنسبة للغربية،مما قلل كفاءة الدواء المصرى,فضلاً عن تعطيل إنتاج بعض الأدوية لمشاكل الاستيراد والتصدير الحالية.
لقد ضاعت علي الدواء المصري فرصة العمر منذ السبعينات حينما كانت السوق الخليجية والعربية والأفريقية واعدة وتثق في صناعة الدواء المصرية,ولكن هذه الأسواق ضاعت منا وذهبت إلي غير رجعة،وذلك لاستهتارنا,فلا نحن دعمنا القطاع العام الذى تعد فكرته خاطئة من أساسها وتقليداً أعمى - مخالف للفطرة - للاتحاد السوفيتي,ولا نحن تركنا القطاع الخاص ينطلق بسرعة البرق لينقذ صناعة الدواء المصرى من كبوته.
فقد اكتسب المصرى منذ الستينات عداوة وتخوين القطاع الخاص,والعيب ليس فيه بل في المنظومة التى تضبطه والموظفين الفاسدين الذين يتابعونه.
أما آن لصناعة الدواء أن تقفز قفزات هائلة،فهذه الصناعة يمكن أن تنقذ وحدها اقتصاد مصر لو تم استغلالها بقوة وبطريقة علمية وشفافة.