د. قاسم المحبشى* يكتب: ما بعد الملامسة؛ في مقاربة المعنى الثقافي للفيروس

د. قاسم المحبشى* يكتب: ما بعد الملامسة؛ في مقاربة المعنى الثقافي للفيروسد. قاسم المحبشى* يكتب: ما بعد الملامسة؛ في مقاربة المعنى الثقافي للفيروس  

*سلايد رئيسى17-3-2020 | 12:51

واجهت العلوم الإنسانية والاجتماعية ولا تزال، تحديات وأسئلة لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها الطويل. إذ لأول مرة في تاريخ الحضارة البشرية تكتسب الظواهر الطبيعية والمشكلات الاجتماعية طابعًا عالميًا كمشكلة سباق التسلح، والحروب والأمن والسلام الدوليين، ومشكلات البيئة الأرضية والأوزون، وصدام وحوار الحضارات، ومشاكل الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال العابرة للقارات، ومشاكل الفقر والصحة والمرض، والتطرف والإرهاب والعنف، ومشاكل الهويات والتعددية الثقافية، والأقليات والتمييز والتعصب والاستبعاد الاجتماعي، والهجرة غير الشرعية، والمخدرات والبطالة والحركات الاجتماعية، والمرأة والطفل والشباب، وكل ما يتصل بحقوق الإنسان، ومشاكل السياسة والنظم السياسية والعدالة والحرية والديمقراطية والمجتمع المدني. والمشكلات الأخلاقية للعلم؛ كالاستنساخ، وزراعة الأعضاء، ومنع الحمل، ومشاكل الفضاء السيبرنيتي والأقمار الاصطناعية والوسائط الإعلامية والتواصلية ومشاكل التربية والتعليم والجودة والاعتماد الأكاديمي..إلخ. وآخرها مشكلة فيروس كورونا، التي أصابة العالم كله بالاضطراب والذهول. إذ يعيش العالم اليوم حالة غير مسبوقة من الرعب والفزع تعم العالم بدوله المتقدمة والمتخلفة وباختلاف الأنظمة والحكومات والأيديولوجيات  الحكومات ترصد من الأموال لمواجهته أكثر مما أنفقت لمواجهة أي وباء أو كارثة طبيعية عبر التاريخ ،الاقتصاد العالمي يختل ويُصاب بحالة من الإرباك. الخبراء الاقتصاديون فقدوا القدرة على التنبؤ الدقيق بالمستقبل، فالصين مثلاً رصدت بداية ظهور المرض 163 مليار دولار لمواجهة الوباء وفي الولايات المتحدة الأمريكية تم تخفيض أسعار الفائدة إلى ما يقرب من الصفر وتم الإعلان عن إطلاق برنامج تحفيزي بقيمة 700 مليار دولار في محاولة لحماية الاقتصاد من تأثير فيروس كورونا ،كل وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي لا حديث لها إلا عن الوباء وسرعة انتشاره وكيفية مواجهته، دول تُعلن حالة الطوارئ والحجر الصحي وكثير منها عطلت المدارس والجامعات والمؤسسات العامة، أغلقت كثير من الدول حدودها أمام حركة السفر والتنقل كما تعطلت أو تقلصت حركة الطيران والتنقل عبر الحدود، الناس التزموا بيوتهم وحدّوا من الاختلاط حتى في المناسبات الاجتماعية من أفراح وأتراح وأصبح الاهتمام بمواجهته له الأولوية على كل المشاكل والقضايا الأخرى. إذ لم يحدث في تاريخ الاجتماعي منذ حواء وآدم، وأنت طالع أن توحد العالم كله كما وحده اليوم. فما الذي كان قبل بضع سنوات يعرف ماذا يدور في الصين؟ وما الذي كان يتوقع أن فيروس مجهري يمكنه أن يربك المشهد العالمي من رأس حتى أخمص قدميه! وما الذي كان يتخيل أن مكة المكرمة تخلوا من الزائرين وكذلك المسجد النبوي! ومن الذي كان يخطر بباله أن المساجد والمدارس في بلاد العرب والإسلام تغلق أبوابها في عز النهار! ومن الذي كان يتخيل أن أمريكا بكل جبروتها ترتعد فرائصها من فيروس كورونا! ومن الذي كان يتخيل أن ينتشر وباء فيروسي من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى أقصى غربها في بضعة أيام! ألسنا بإزاء ظاهرة عالمية جديدة وصادمة للعقل والروح معًا؟ من الواضح أن العالم ما بعد كورونا ليس كما كان قبله. إذ مع كورونا سوف تتغير الكثير من عادات الناس الثقافية، فلا مصافحة بالأيدي ولا بالأحضان ولا بالانوف. والسلام صامت ومن بعيد، والتحايا بالقلوب، والعطس ممنوع بالأماكن العامة، والأكل بالشوكة والملعقة، ولا ولائم جماعية. وكل يأكل من صحنه. والصلاة مفردة، كل يصلي لوحدة في بيته أو تحت الشجرة. وتبقى المشكلة في العلاقات الزوجية، فمن المؤكد أن كثيرين من الأزواج سوف يجدون في كورونا مخرجا للهروب من زوجاتهم إذ بعطسة واحدة يجعلها تطير من السرير، وبالمثل يمكن للزوجات عمل ذلك ببساطة جدا. وربما سيكون لكورونا دورا في حماية البنات الصغيرات من الزواج بعواجيز الرجال، وسوف يتغير الشعار الذكور (بجنب رجال ولا بجنب جدار) إلى عكسه تماما. كورونا سوف يكون لها آثارا لا هي بالمتوقعة ولم تكن بالحسبان في كل مجالات حياة الإنسان العامة والخاصة. وقد شهد العالم المعاصر منذ منتصف القرن العشرين أحداثاً عاصفة ومتغيرات متسارعة في مختلف الصعد الحضارية والثقافية والمدنية، متغيرات لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث جدتها وسرعتها وأثرها وقوتها الصادمة للروح والعقل معاً، إذ بدأ الأمر وكأن التاريخ يترنح والأرض تميد بأهلها، والقيم تهتز والحضارة تضطرب، والفوضى الشاملة تجتاح كل شيء، وبإزاء هذا المشهد القيامي المجنون تحيرت أفضل العقول، وفقد العقل الإنساني بصيرته وقدرته النيرة في رؤية الأحداث وما ورائها، ومن ثم تفسيرها وتحليلها والكشف عن ثيماتها العميقة المتخفية في سبيل فهمها وعقلنتها وإدراك معناها، ووسط هذا السديم الحالك من الاضطراب العظيم والعمى الشامل، أخذ العلماء والمفكرون والمؤرخون يبحثون عن تفسير معقول لما يعتمل في الواقع ويدور في عالم جن جنونه وأصاب الناس جميعاً بالدهشة والذهول . فهذا المؤرخ الإنجليزي المشهور "جفري باراكلاف" من جامعة اكسفورد يكتب تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة: " إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وأن أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم"، هذا الإحساس المتشائم بعدم جدوى التاريخ سرعان ما سرى كما تسري النار في الهشيم بين قطاعات واسعة من الفئات المثقفة الأورأمريكية وهذا ما أفصح عنه المؤرخ البريطاني "ج. هـ. بلومب " في كتابه "حيرة المؤرخ" عام 1964م، بقوله: "ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، فقد اندثرت فكرة الرقي والتقدم الصاعد بين المشتغلين بالتاريخ، فــ 90% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق" وقد بلغ هذا الموقف المتشائم من التاريخ والمعرفة التاريخية عند المؤرخ الأمريكي "دافيد رونالد" من جامعة هارفارد حد الرفض للتاريخ والتشكيك بقيمته وأهميته في كتاب يحمل الاستفزاز والتحدي صدر عام 1977م بعنوان ( تاريخنا بلا أهمية) أكد فيه عدم فائدة التاريخ الحاضر والماضي والمستقبل وأعلن: "أن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا وأننا لا نتعلم من أخطأ الماضي، وما أقل تأثيرنا فيما ينزل بنا من أحداث وما أشد عجزنا في قبضة قوى طبيعية أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني" ويمكن لنا تتبع حيرة الفكر المعاصر إزاء ما شهده العالم ولا يزال يشهده من اضطراب شامل في ذلك السيل المتدفق من المحاولات التنظيرية التي ترغب في توصيف ونمذجة وعقلنه المشهد التاريخي الراهن في أطر مفهومية مجردة وكلية، إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون ويتنافسون في صياغة وإبداع ونحت المفهومة المعبرة أو الصورة الفكرية التي يمكن لها ان تعبر عن العالم المعاش، وتمنح الحقبة الجديدة اسمها ومعناها. ومن تلك التوصيفات يمكن الإشارة إلى أشهرها وهي: العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد القومية، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد الاستعمار، ما بعد البنيوية، ما بعد التنوير، ما بعد الشيوعية، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد التاريخ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير"،  عصر الليبرالية الجديدة، عصر التفكيك، مجتمع الفرجة، أو الاستعراض، عصر الكمبيوتر، ثورة المعلومات والاتصالات، أو صدام الحضارات، القرية الكونية، نهاية عالم كنا نعرفه" مجتمع الاستهلاك، عصر الديمقراطية، عصر التقنية، عصر التنوع الثقافية، العهد الأمريكي، أو الأمركة، عصر الإرهاب العالمي، السوق الحرة، والوطن السيبرنيتي، عصر الفضاء، والكوكبية، حضارة الموجة الثالثة وغير ذلك من التوصيفات الكثيرة في أبعادها المتنوعة. فهل يمكن القول إن كورونا تعني مرحلة ما بعد الملامسة؟. ................................... * أكاديمى وشاعر وأديب يمنى
أضف تعليق

حظر الأونروا .. الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2