أعاد فيروس كورونا الاعتبار مرة أخرى لمهنة الطب والأطباء ومساعديهم، ولكن هذا الاعتبار المعنوى لم تصاحبه حلول جذرية لمشكلات الطبيب المصرى المستعصية، ولعل أهمها ما يلى:
أولاً: حبس الطبيب ومحاسبته جنائياً على الخطأ الطبى أو على مضاعفات للجراحات تحدث فى كل العالم ومكتوبة فى المراجع العلمية، ثم مساومته على دفع ما يملك هو وأسرته عن طريق محامين محترفين للتعويضات يتكسبون على حساب المرضى والأطباء معاً، فيوضع الجراح فى السجن مع عتاة المجرمين ويصاب بالجرب، حتى يضطر لدفع نصف مليون جنيه يجمعها من أسرته لتفادى الحبس، وبعد عدة أشهر تظهر براءته ولكن بعد أن تكون كرامته أو أمواله أو كلاهما قد ضاعا. لقد أقسم أستاذ جراحة على مغادرة البلد كله لأن حكماً ابتدائياً بالسجن ظل يطارده ولم يبرأ منه إلا بعد عامين كانا من أشق الأعوام عليه.
الطبيب عنوانه وعيادته ومستشفاه معروفة، ورغم ذلك فإن أول إجراء يُتخذ ضده هو الحبس الاحتياطى، والحجة الجاهزة هى الخوف عليه، وهذا ما دعا كثيراً من الأطباء فى المستشفيات المركزية والعامة إلى «زحلقة» و«تطفيش» الحالات التى يمكن أن تحدث معها مضاعفات إلى المستشفيات الجامعية، رغم علمهم أن أكثرهم سيموت فى الطريق، حماية لأنفسهم من الضرب أو الإهانة أو السجن أو تحطيم المستشفى، وكل ذلك يحدث باستمرار.
علينا أن نرفع شعار «الطبيب ليس بقاتل»، وما يحدث للمريض لا يندرج تحت بند القتل الخطأ وإلا ما أُجريت جراحة قلب على ظهر الأرض.
ثانياً: الاعتداء على الأطباء وأطقم التمريض والأجهزة الطبية. ولعل فى حادث تحطيم أفضل وحدة لقسطرة القلب تكلفت 20 مليون جنيه والتى توجد فى معهد القلب عبرة وعظة، وتحطيم جهاز التنفس الصناعى فى مستشفى شبرا العام، أو تحطيم عدة مستشفيات أثناء الانفلات الأمنى بعد ثورة يناير، وضرب الأطباء وطواقم التمريض، فالذى لا يُذكر عادة فى حالات تحطيم الأجهزة الطبية هو الضرب والإهانات والشتائم التى تلحق بالأطباء ومساعديهم.
مشكلة الطبيب أنه لا وقت لديه للشكوى فى الأقسام والنيابات أو الدخول فى مشاحنات وملاسنات أو قضايا ضد البلطجية يخسر فيها عادة، فليست له حماية ولا حصانة، ويمكن أن يتكرر ضربه وإهانته منهم مرات، وقد يتمكن هؤلاء، بألاعيبهم وحيلهم، من شغله وتعطيله وتخويفه بل وسجنه.
لقد استعادت كل المؤسسات السيادية هيبتها منذ فترة طويلة إلا القطاع الطبى، وأكثر طبيب يتعرض للضرب فى المستشفيات هو أكثرهم إخلاصاً وسهراً إلى جوار المريض وبمجرد سماع أهله كلمة «البقاء لله» تخرج شياطين الإنس تحطم كل شىء أمامها.
ثالثاً: يعرف العوام والخواص أن أسوأ مرتبات فى مصر كلها هى مرتبات التعليم والصحة رغم أنهما من أعمدة المجتمع الرئيسية، وذلك بحجة أنه يكفى الطبيب ملايين العيادات، مع العلم أن 30% من الأطباء فقط هم الذين يملكون عيادات ناجحة، فمرتب النائب الذى يعد الماجستير 2500 جنيه رغم حمله للقسم على كتفه، زادت قرابة 500 جنيه، وهى لا تساوى مرتب أصغر مصرفى فى البنوك أو عامل فى البترول، وعلى النائب الذى يحضّر للماجستير أن يعيش ويأكل ويشرب ويدرس ويتزوج ويحضر الرسالة ويحافظ على مظهره ومسئولياته الاجتماعية من هذا المرتب الهزيل.
أما مكافأة نهاية الخدمة للاستشارى المخضرم الذى زادت خدمته على 35 عاماً فتصل إلى 30 ألف جنيه، مع أن نظيره فى البنوك أو البترول مثلاً مكافأة نهاية خدمته نصف مليون جنيه.
رابعاً: سكن الأطباء فى المستشفيات وطعامهم سيئ جداً، ولك أن تقارن استراحات أى مهن أخرى بأماكن سكن الأطباء وطعامهم رغم أنه من المفترض أن يكون ملائماً لعالم صغير يواصل الليل بالنهار ويدرس ويجرى جراحات دقيقة، ولذلك يهرب معظم الأطباء من المبيت فى المستشفيات ويُحرم المرضى من جهودهم فى الساعات المتأخرة من الليل أو يظل الطبيب نائماً فى مكان لا يليق به ولا يحترم آدميته، فمعظم الأجهزة فى الاستراحة معطلة، وإذا لم يعتمد الطبيب على نفسه فى إحضار ما يعينه على الحياة الكريمة فلن يستطيع البقاء فى هذه الاستراحة يوماً واحداً.
خامساً: المنظومة الصحية المصرية بكاملها تحتاج إلى إعادة نظر وترتيب مرة أخرى، وهذا ما دفع أكثر الأطباء المصريين فى السنوات الأخيرة إلى أن يأخذوا إجازات بدون مرتب ويلجأوا إلى العمل الخاص أو يسافروا إلى كندا وأستراليا وألمانيا وأمريكا أو بلاد الخليج بعد أن اكتسبوا خبرات رائعة بفضل المريض المصرى.