إسماعيل منتصر يكتب «خواطر حرة جدا»: كنت رئيسًا !

إسماعيل منتصر يكتب «خواطر حرة جدا»: كنت رئيسًا !إسماعيل منتصر يكتب «خواطر حرة جدا»: كنت رئيسًا !

*سلايد رئيسى29-4-2020 | 16:11

مثل كل الأطفال الصغار.. كنت أحتفظ فى مخيلتى بقائمة من النجوم الذين كنت أعتبرهم مثلا أعلى.. فأحاول تقليدهم وأتخيل أننى كبرت وصرت مثلهم..
كانت "قائمتى" تضم نجوما للكرة ومطربين وممثلين كما كانت تضم عمى الكاتب الصحفى القدير صلاح منتصر. عاش عمى فى منزلنا بضع سنوات وكنت شديد الإعجاب به.. ملابسه.. ملامح وجهه الوسيم.. أسلوبه وطريقته فى الحديث.. وعندما انتهى عمى من دراسته الجامعية وبدأ حياته العملية انتقل للمعيشة بمفرده.. فكنت أتطلع إلى زياراته بفارغ الصبر..
وحدث يوما أن اصطحبنى والدى لزيارته فى مكتبه بمبنى جريدة الأهرام القديم بشارع مظلوم بمنطقة باب اللوق.. وعرفت لأول مرة أنه يعمل صحفيا..
وبعد انتهاء الزيارة وطوال طريق العودة إلى منزلنا بحى شبرا لم أتوقف عن توجيه الأسئلة لوالدى – رحمه الله – عن معنى كلمة الصحافة وعن طبيعة عمل الصحفيين وعن الطريقة التى يمارسوا بها عملهم.. وقبل أن أدخل من باب المنزل اتخذت قرارًا بأن أكون صحفيا.. مثل عمى!..
أصبحت الصحافة هى هوايتى أو لعبتى التى أمضى فى ممارستها ساعات طويلة.. عرفت من والدى أن عمى كان يقوم بإصدار صحف ومجلات منزلية وهو تلميذ صغير، فقررت تقليده وقمت بإصدار جريدة "الأسرة" والتى لم أنقطع عن إصدارها حتى التحاقى بكلية الزراعة!..
لم تمنعنى دراستى الجامعية عن ممارسة هواية الصحافة.. فقمت بعمل عدد من مجلات الحائط.. وهكذا تحولت الصحافة بالنسبة لى من لعبة منزلية إلى هواية جامعية!..
فى أوائل السبعينات كانت مجلات الحائط ظاهرة منتشرة ومعروفة فى كل الجامعات المصرية.. وكانت كلها تعبر عن غضب الشباب من حالة اللاسلم واللاحرب التى تعيشها مصر..
كان معظم هذه المجلات إن لم يكن كلها.. قنابل شديدة الانفجار تفوح منها رائحة شياط أعصاب الشباب وغضبه من عدم دخول مصر الحرب ضد إسرائيل..
وكانت تحتوى على انتقادات كثيرة لكافة الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية.. ووصل الأمر بأصحابها إلى التجرؤ على الرئيس السادات وانتقاده علنا!..
كان أصحاب هذه المجلات من هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم إسم مناضلين.. وكانوا جميعا ينتمون لمدرسة "لا" الرافضة لكل شىء.. للرئيس والحكومة والسياسة والاقتصاد والنظام والقانون.. وأحيانا العقل والمنطق!..
ولم أكن كذلك أو على الأقل لم أقوم بعمل مجلة حائط لأننى مناضل وإنما لأننى صحفى أو أتمنى أن أكون صحفيا!.. لهذا السبب جاءت مجلة الحائط التى كنت أصدرها عملا صحفيا أكثر منه عملا نضاليا.. عملا يشمل الخبر والتحقيق والمقال والكاريكاتير وحتى مواد التسلية.. وليس مجرد بيانات نضالية تعبر عن غضب الشباب.
وعندما قامت الحرب فى عام 1973.. بدأت ظاهرة مجلات الحائط تختفى من الجامعات بعد أن اكتشف أصحابها أنهم مناضلون بلا قضية.. أما بالنسبة لى فلم أتوقف عن صحافة الحائط.. بل أننى قمت بعد ذلك بتطويرها بمشاركة زميلى فى الدراسة مجدى هاشم.. والذى أخطأ طريقه بالعمل مضيفا جويا بدلا من أن يكون صحفيا!..
تحولت مجلة الحائط إلى مجلة مطبوعة أطلقنا عليها إسم مجلة البداية.. وقد ظلت تصدر بانتظام حتى تخرجنا. كان أهم ما تعلمته خلال هذه الفترة أن هناك فارق بين الصحفى والمناضل.. وأنه ليس مطلوبا من الصحفى ولا هى مهمته أن يكون مناضلا وإنما كل المطلوب منه أن يكون صحفيا.. فقط صحفيا!..
حفرت بأظافرى فى الصخر بعد تخرجى من أجل أن أعمل بالصحافة.. وكافأتنى الأقدار بدخول بلاط صاحبة الجلالة فى عام 1976.. عندما وافق الأستاذ أنيس منصور على انضمامى لأسرة تحرير مجلة أكتوبر.. فعملت بها قبل صدورها واجتهدت فى عملى وكانت أجمل مكافأة على اجتهادى هى صدور العدد الأول لمجلة أكتوبر، ومن بين الموضوعات المنشورة فيه تحقيق صحفى يحمل اسمى.. إسماعيل منتصر!..
وبدأت مشوارى الصحفى الطويل.. بدأته وقد تعلمت جيدًا أن هناك فارق كبير بين المناضل وبين الصحفى.. وأن اختيارى هو أن أكون صحفيا وليس مناضلا!.
ولم يكن ذلك يعنى أننى أنتمى لمدرسة الصحافة الداجنة.. وهو تعبير اخترعه الأستاذ أنيس منصور للتعبير عن الصحافة المستأنسة التى ليس لها أنياب ومخالب!..
كان الأستاذ أنيس منصور أول رئيس تحرير لمجلة أكتوبر يطلب منا أن ننتقد الأوضاع الراهنة من خلال ما نقوم به من تحقيقات صحفية.. أنقد كما تشاء لكن أحرص على أن تكون موضوعيا ولا تستسلم أبدا لإغراء المزايدة!.. وبهذه النصيحة ولأننى اخترت أن أكون صحفيا وليس مناضلا.. قمت بعمل مئات التحقيقات الصحفية الجريئة التى تحمل قدرًا كبيرًا من النقد الموضوعى.
وعلى امتداد سنوات طويلة بدأت أتحول من كتابة التحقيق الصحفى إلى كتابة المقال الصحفى.. وعندما توليت مسئولية مدير التحرير أصبحت أكتب مقالا أسبوعيا تحت عنوان "حوار الأفكار"..
كانت مقالاتى الأسبوعية تحمل قدرًا كبيرًا من النقد لكنه النقد الموضوعى الذى أمارسه كصحفى وليس كمناضل!.. كان الإعلامى الشهير حمدى قنديل يقدم برنامجًا أسبوعيًا فى التليفزيون المصرى بعنوان رئيس التحرير.. وكان يذيع من خلاله عناوين بعض المقالات الصحفية وبعض من فقراتها.. وكانت كلها تحمل نقدًا لاذعًا للحكومة وللنظام.. وكانت مقالاتى الأسبوعية محل اختيار الأستاذ حمدى قنديل بطريقة شبه منتظمة.. وهو ما يؤكد أننى لم أكن أنتمى لمدرسة الصحافة الداجنة وإنما كنت كما يقولون أعارض بموضوعية دون خوف من لومة لائم!..
ثم حدثت نقلة موضوعية فى مسيرتى الصحفية.. فقد تم اختيارى فى عام 2005 لرئاسة تحرير مجلة أكتوبر ورئاسة مجلس إدارة دار المعارف التى تصدر من خلالها مجلة أكتوبر..
كانت مهمتى كرئيس للتحرير مهمة سهلة وبسيطة بفضل خبرتى الطويلة ومساعدة ومساندة زملائى الذين تحمسوا لتجربتى.. أما مهمتى كرئيس لمجلس الإدارة فقد كانت العذاب بعينه..
كنت مسئولا عما يزيد على ألف عامل وموظف وصحفى.. كنت مسئولا أن أبحث لهم عن موارد مالية سواء من خلال نشر الكتب المختلفة أو طباعة الكتب المدرسية.. وكنت مسئولا عن تدبير مرتباتهم وحوافزهم ومكافآتهم شهريا.. وكنت فى نفس الوقت مسئولا عن تنظيم دولاب العمل والتخطيط لمستقبل المؤسسة..
وكانت الظروف الاقتصادية التى تمر بها المؤسسة وكل المؤسسات الصحفية الأخرى تجعل مهمتى شبه مستحيلة.. ومع ذلك فقد حاولت قدر إمكانى القيام بهذه المهمة على الوجه الأكمل وكان الثمن هو الصحة والأعصاب والنوم الذى كان يغيب عنى أياما وشهورا!.. واليوم وبعد أن تركت موقعى وأصبحت أعيش فى هناء وراحة بال.. أتذكر هذه السنوات التى كنت فيها رئيسا.. أتذكر العذاب والقلق وسهر الليالى.. أتذكر المعاناة التى تجرعتها قطرة قطرة.. وأحمد الله بعد ذلك من كل قلبى لأن الأقدار اختارتنى رئيسا لمؤسسة فى مصر وليس رئيسا لمصر (!!!)
أضف تعليق