عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الأفيون المعكوسة

عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الأفيون المعكوسةعبد الحليم قنديل يكتب: حرب الأفيون المعكوسة

عرب وعالم9-5-2020 | 01:39

فى رصده لصراع الإمبراطوريات الكبرى على مدار حركة التاريخ الحديث والمعاصر، ينطلق الكاتب الكبير من دلالة جملة مقتبسة من حديث لمسئول صينى، ويبنى عليها مقاله الكاشف لآليات الصراع العالمى الحالى على خلفية جائحة "كورونا" وما ينتظره العالم من نتائجها. وفى هذا السياق كتب قنديل الآتى: "لن تتكرر حروب الأفيون القديمة"، كان ذلك رد مسئول صينى على حملة الاستفزازات الأمريكية ضد بكين لتحميلها أوزار نشر جائحة "كورونا". إشارة المسئول الصينى مفهومة، وفحواها ظاهر ، وتنطوى على تحذير مباشر من مجرد التفكير فى حرب جديدة ضد الصين، فلم تعد الصين تلك الفريسة السهلة، التى كانت عليها قبل نحو قرنين من الزمان. كانت الامبراطورية الصينية وقتها ، قد آلت إلى ضعف وتخلف عن أدوات الحرب والتنظيم الحديثة ، التى كان الغرب الأوروبى وقتها سيدها ومحتكرها ، واستخدمها فى بسط نفوذه الاستعمارى إلى أقصى الشرق ، وكانت بريطانيا العظمى رأس الحربة الاستعمارية الغربية ، وإن تركت مساحة لأدوار غريمتها فرنسا ، التى احتلت مناطق كثيرة فيما يعرف باسم "الهند الصينية" ، لكن تصفية الحساب التجارى والحربى مع المركز الصينى الامبراطورى المتداعى ، تولتها بريطانيا ، التى استخدمت قناعا اسمه مبدأ حرية التجارة ، وضاقت مواردها عن الدفع بالفضة مقابل شراء الحرير والبورسلين والشاى الصينى ، ولجأت شركتها "الشرقية" فى الهند المحتلة إلى حيلة خبيثة مدمرة ، هى الدفع بالأفيون مقابل البضائع الصينية ، ومدت حقول الأفيون فى "البنجال" الهندية وقتها ، وأغرقت الصينيين بالأفيون ، وإلى حد صار معه عشرات الملايين من الصينيين تحت إدمان الأفيون ، وقفز الرقم فيما بعد إلى ما يزيد على المئة مليون صينى مغيب بمخدر الأفيون ، وكانت سلالة "تشينج" الامبراطورية تحاول وقف الزحف ، وأخذ تدابير بالتحريم لمنع تدمير شعبها بالأفيون ، وكان ذلك سببا مباشرا لتجريد حملات عسكرية ضد الصين ، فيما عرف فى أربعينيات القرن التاسع عشر بحروب الأفيون الأولى والثانية ، التى انتهت إلى تجريد الصين من استقلالها ، وارغامها على التنازل عن موانى الساحل الشرقى تباعا ، بدءا بالتنازل عن "هونج كونج" لبريطانيا العظمى عام ‭1842‬ ، وإلى التنازل عن "تايوان" لصالح اليابان عام ‭1895‬ ، وفرض امتيازات تجارية ودينية لصالح فرنسا وبلجيكا والسويد والدانمارك ، ثم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية والامبراطورية الروسية لأخذ نصيبهما من الكعكة الصينية ، وإلى أن انفجرت ثورة صينية شعبية أطاحت بحكم أسرة "مانشو" آخر سلالات الامبراطورية الصينية عام ‭1911‬ . ولم يكن العهد الجمهورى الصينى الناشئ مستقرا ، ولا هو بأفضل حال كثيرا من العهد الامبراطورى ، فلم تتوقف المطامع الأجنبية أبدا ، ولم يعش رمز الصين الوطنى "صن يات صن" طويلا ، وآل حزبه القومى "الكومنتانج" من بعده إلى سلفه "شيانج كاى شيك" ، وتعددت دورات الاندماج والانفصال والتحارب بين "الكومنتانج" والحزب الشيوعى ، وصارت الصين نهبا لغزوات العسكرية اليابانية الشرسة ، التى راح ضحيتها عشرات الملايين من الصينيين ، إلى جوار عشرات ملايين الضحايا فى الغزوات الغربية ، وقتل ملايين آخرين فى حروب الكومنتانج والحزب الشيوعى ، وإلى أن كانت نهاية الدراما الدموية فى عام ‭1949‬ ، مع زحف ماوتسى تونج وجيش التحرير إلى بكين ، وإعلان جمهورية الصين الشعبية ، فيما هرب شيانج كاى شيك إلى "تايبيه" بجزيرة تايوان ، وأعلن منها قيام الصين الوطنية ، وعلى أمل العودة إلى البر الرئيسى للصين ، وطرد الشيوعيين ، بدعم ومشاركة حربية نشيطة من الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو ما لم ينجح أبدا ، فلم تستطع الولايات المتحدة الفوز فى الحرب الكورية أوائل الخمسينيات من القرن العشرين ، وكان الانقسام بين شمال وجنوب فى كوريا ، التى كانت تاريخيا من تراث الحضارة الصينية . وبالطبع ، لا يتسع المقام لشروح وتفاصيل المذابح الدموية المرعبة ، ولا لأحاديث المجاعات الصينية ، ولا لتخيل أرقام ضحايا الجوع بعشرات الملايين ، فلم تسلم الصين من نكبات الجوع ، حتى بعد ثورة ماوتسى تونج وحروبه الثقافية ، وسعيه لتحرير الصين من الخرافة والأمية ، ودفع الصين إلى عصر الصناعات الثقيلة ، واقتحام العصر النووى والفضائى ، لكن الصين الشعبية فرضت نفسها كحقيقة كبرى فى العصر الجديد ، وأرغمت واشنطن على الاعتراف بها فى النهاية ، عبر زيارة كيسنجر السرية الشهيرة إلى بكين عام ‭1971‬ ، والتسليم بمبدأ "صين واحدة" تمثلها بكين ، ومنحها واحدا من مقاعد "الفيتو" الخمسة فى مجلس الأمن الدولى ، كبديل عن "تايوان" ، التى ظلت أمريكا تستخدمها كمخلب قط ضد الصين ، وبارتكازات عسكرية وبحرية ، وبمناورات فى المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة ، فقد كانت "تايوان" ـ مثلا ـ عضوا مراقبا فى منظمة الصحة العالمية بين عامى ‭2009‬ و ‭2016‬ ، وإلى أن طردتها الصين ، فبكين لا تعترف بوجود "تايوان" كدولة مستقلة ، بل تعتبرها جزء من الصين ، يتوجب ضمه بأى طريقة ، ولو كانت بالخطة الصينية المعروفة باسم دولة واحدة ونظامين ، التى استعادت بها "هونج كونج" قبل ثلاثين سنة وتزيد. والمعنى ببساطة ، أن حروب الأفيون لم تضع أوزارها بعد ، حتى وإن تنوعت صورها ، مع ميل دولى متزايد إلى التسليم بحقوق الصين ، طوعا أو كرها ، فلم تعد الصين الجديدة هى ذاتها قبل قرنين ، وحين أعلن ماوتسى تونج دولة الصين الشعبية ، قال بوضوح "لقد انتهى قرن الذل الصينى" ، ولم يعش ماو حتى يرى النهوض الأعظم للصين بعد وفاته عام ‭1976‬ ، فقد تحولت الصين إلى حقيقة العصر الكبرى اليوم ، وصارت صاحبة أكبر اقتصاد فى العالم بمعايير تقابل القوى الشرائية بالدولار ، وفيما غزاها الآخرون باسم مبدأ حرية التجارة ، فإنها تغزو الدنيا كلها ببضائعها الآن ، وصارت تستحوذ على 35 % من إجمالى التجارة العالمية ، وهو ما دفع أمريكا إلى الانكماش ، والاختباء وراء حواجز الرسوم الجمركية المضاعفة بجنون على البضائع الصينية ، فى محاولة لخفض العجز الأمريكى التجارى المهول ، فيما تواصل الصين قفزاتها الصناعية والتكنولوجية المذهلة ، وتضاعف وسائل الضغط دونما ضجيج ، فهى تملك ثلث ديون أمريكا الخارجية ، وتمد طرق "الحزام " و" الحرير" ، وزادت تجارتها إلى أوروبا بنسبة 40% فى شهور الكورونا ، عبر طريق القطارات فائقة السرعة الممتدة من شرق الصين إلى أقصى غرب أوروبا ، واستثمرت نجاحها المبكر فى إنهاء وباء كورونا على أراضيها ، ومدت يد المساعدات السخية إلى عشرات الدول حول العالم ، وحتى إلى أمريكا نفسها ، وهو ما وضع صانع قرار واشنطن فى "خانة اليك" ، فقد صارت أمريكا هى مركز الوباء الأعظم ، ووفيات كورونا فيها ، تزيد على ربع إجمالى الضحايا فى العالم كله ، وكان الرئيس الأمريكى ترامب يمنى نفسه بنهاية سريعة للجائحة ، التى تهدد بحرمانه من تجديد رئاسته فى انتخابات نوفمبر ‭2020‬ ، وكان يتوقع أن يتوقف عداد القتلى الأمريكيين عند 65 ألفا ، وهو اليوم يرفع رقم المزايدة إلى المائة ألف ، ويحاول مداراة خيبته وخيبة واشنطن الثقيلة ، فبعد أن كان يشيد بالصين فى بداية الجائحة ، تحول إلى اتهام بكين ، والحديث الملتاث عن تصنيع فيروس كورونا فى معمل "ووهان" الصينى ، وعن تقارير مخابراتية وأدلة موهومة ، وهو ما سايره فيه وزير خارجيته مايك بومبيو المدير السابق للمخابرات المركزية ، إضافة لتقارير هائمة توحى بها مخابرات "العيون الخمس" ، التى تضم أجهزة مخابرات دول المحورالأنجلوساكسونى (الولايات المتحدة ـ بريطانيا ـ كندا ـ استراليا ـ نيوزيلاندا) ، وكان رد الصين حازما ، إذ وصفت هذه التقارير والتصريحات بالجنون ، فالفيروس طبيعى ، وليس من صنع بشر ، وهو ما يؤيده تماما أنتونى فاوتشى أكبر علماء أمريكا فى الوبائيات ، ومن قبله تقرير مدير مكتب المخابرات الوطنية فى أمريكا ذاتها ، ومن قبلهما علماء أوروبا ومايكل رايان مدير الطوارئ فى "منظمة الصحة العالمية" ، التى يتهمها ترامب بالعمالة للصين ، ويجمد إسهام أمريكا المالى فى موازنتها ، ويمتنع عن المشاركة فى مؤتمر مانحين ، دعت إليه المفوضية الأوروبية ، وجمعت عبره نحو ثمانية مليارات دولار تعهدات لدعم التوصل إلى وتعميم اللقاحات ، وإلى حد بدت معه واشنطن كأنها "الزوجة المهجورة" ، التى تهذى بكلام غير مفهوم ، ولا تضمر سوى الحقد ضد التفوق الصينى المتصل ، والتهديد العبثى بمحاسبة بكين ، فيما لا تملك أمريكا أن تفعل سوى ما فعلت ، بعقوبات وحروب تجارة لا تفوز فيها ، وبتهديدات صاخبة ، لا تجدى قتيلا مع الصين الجديدة ، فليس بوسع واشنطن ، أن تشن حربا مسلحة ضد الصين النووية المتحالفة عسكريا مع روسيا ، والقائدة اقتصاديا لدول "تجمع شنجهاى" التى تضم نصف سكان العالم ، وليس بوسع واشنطن أن تكبح جماح التوسع الصينى التجارى فى الدنيا كلها ، ولا مقارعة دبلوماسية الصين الناعمة ، التى تلف قبضتها الحديدية فى قفاز من حرير صينى ، نفس الحرير الذى كان عنوانا لحروب الأفيون القديمة ، ومع فارق ملموس جدا ، هو أن "الأفيون" يأكل هذه المرة أدمغة الأمريكيين لا الصينيين ، إنها حرب الأفيون المعكوسة . Kandel‭2002‬@hotmail.com
أضف تعليق

تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2